مسوخ بلاد الحرمين

 

نبدأ الحكاية من تلك الفكرة التبسيطية للأمور، والتي يتم عن طريقها اختصار تاريخ ألف عام مر على أوروبا بوصفه في عبارة "عصور مظلمة"، وهذا الوصف في حقيقته لا يصف أي شيء لكنه بطريقة ما وجد له الرواج في الأذهان حتى أصبح من المسلمات، ولا أريد الخوض في سمات تلك الحقبة، فلهذا الحديث أهله، إنما أردت الحديث عن عملية ربط ظلامية تلك العصور بالتسلط الكنسي.

الباحث في الأمر سيجد أن تلك الحقبة من تاريخ أوروبا لم تكن في حقيقة الأمر ظلامية كما روج لها المؤرخون، لكن حتى وإن سلمنا بأنها كانت عصورا ظلامية بالكامل فإن ربط كل تلك الظلامية بالتسلط الكنسي وحده فيه إسفاف وسذاجة، والعقلية العربية تعشق الاختصارات، لهذا يؤمن بعض مثقفينا -هداهم الله- بوجوب إلقاء كل تلك الحقبة من تاريخ أوروبا في سلة الظلامية، ثم يؤمنون بوجوب إلقاء كل تلك الظلامية في ساحة الكنيسة، ثم يؤمنون بأن الحل السحري الذي انتشل أوروبا من الظلامية إلى التنوير هو "فصل الكنيسة/ الدين عن الدولة".

إن الإيمان بهذه الفكرة وبهذه الطريقة تحديدا يشبه السير في اتجاه واحد لا يؤدي إلى أي مكان، إنه تفكير أحادي الاتجاه، كل الخطوات فيه واضحة بسيطة يؤمن بها المرء ليتوهم أنه ملم بكامل المسألة رغم أن ما يؤمن به لا يشرح أي شيء على الإطلاق! فمن ناحية لا يمكن اختصار ألف عام في عبارة واحدة، ومن ناحية أخرى لا يمكن تحميل النظام الديني المسيحي في تلك الحقبة كل المشاكل وتجاهل الأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية، فمشاكل الأمم لا تنتج بهذه الطريقة التبسيطية، والناحية الأهم في المسألة أن الأمم لا تحل كل مشاكلها بحل واحد سحري ينتشلها من الظلمات إلى النور بضغطة زر، إنما بنهضة حقيقية على كافة الأصعدة والاتجاهات وعلى فترات زمنية مستمرة، ما يعني أن من يردد أن أوروبا نهضت حين نجحت في فصل الدين عن الدولة، فهو وإن كان يحمل أعلى الشهادات إما أنه غبي أو يستغبي.

ما فات ليس إلا توضيحا مختصرا ومُخِلا جدا الغرض منه فقط أن يعي من حشر وعيه بكل هذه الترهات أنه في واقع الأمر لا يعي شيئا على الإطلاق، وأيضا ما فات ليس هو الموضوع، إنما الموضوع عن بعض مثقفي "بلاد الحرمين" الذين يتبنون هذه الفكرة الساذجة وغير الواقعية ولا عملية ويقدمونها أمامنا على أنها الحل السحري القادر على أن ينتشلنا من واقعنا الفوضوي إلى واقع مواز للواقع الغربي المزدهر، هكذا بكل بساطة كي يرتقي المجتمع فعليه أن يفصل الدين عن الدولة، كي يزدهر واقعنا ونتحول إلى أمة حضارية فعلي الدين أن يبقى في المسجد فقط.

نحن اليوم لسنا في حاجة لمثقفين، فلدينا -ولله الحمد- عدد من المثقفين يفوق أو يساوي عدد حاملي الشهادات الوهمية، فلقب "مثقف" أصبح يطلق على المثقف الحقيقي وأيضا على كل جامع وحاوٍ يتنقل هنا وهناك ويجمع بضع أفكار ومعلومات بخيرها وشرها ويطرحها بكل تناقضاتها، ربما دون أن يعي بتناقضات وتهافت ما يحمله من أفكار، إننا في حاجة إلى حكماء يشكون ويشككون بكل جرأة في كل الأفكار التنويرية والليبرالية والعلمانية التي أصبحت من المسلمات رغم تهافتها وركاكتها، في حاجة إلى جرعات وعي مكثفة تبين لنا بوضوح أن مشكلة بعض مثقفينا ليست مع المسجد ولا مع المتدين وتصرفاته إنما مشكلته مع الدين نفسه، ربما هي مشكلة تأصلت لإيمانه بأن الحل السحري البسيط والفعال للارتقاء بهذا الوطن هو في لملمة الإسلام وحشره داخل المسجد أسوة بتعامل الغرب مع المسيحية.

لكن حتى وإن تم بطريقة ما وصدقنا فعلا أن العامل الوحيد خلف ازدهار الغرب كان بسبب فصل الدين عن الدولة، فإن الكنيسة لا تشبه المسجد بحال، والمسيحية ليست هي الإسلام، الإسلام لا يمكن فصله عن أي منحى من مناحي الحياة، فهو الفكرة وتطبيقها، هو دعوة للتأمل وحث على الممارسة، هو منظومة ثقافية سياسية اقتصادية، وهو أيضا منظومة أخلاقية شعائرية، ودين بهذه الصفات لا يمكن حشره أبدا في زاوية التصوف الروحاني، وإبقاؤه هناك لا علاقة له أبدا بممارسات السياسة وتعاملات التاجر، إنه دعاء ودعوة، قيمة وعمل.


إن السر في ازدهار الغرب هو في اعتزاز الإنسان الغربي لحد التعالي بمجتمعه ولغته وطبائعه وتاريخه وكامل موروثه، لا كما يريد بعض مثقفي "بلاد الحرمين" أن يوهمونا بأن حل جميع مشاكلنا كامن في سحق شخصية الفرد وجعله مجرد تابع للغرب! هؤلاء وإن بدا أنهم أصحاء إلا أنهم مرضى بمرض ربما لم يصنفه علماء النفس حتى الآن، مرض التواجد جسديا في مكان والروح تهيم في مكان آخر دائما أجمل وأرقى، ومن علامات هذا المرض أن الإنسان يبالغ في الإعجاب بالمجتمع التخيلي "الغربي"، ويبالغ في النفور من مجتمعه، وكلما زاد إعجابه بالمجتمع البعيد المتخيل زاد كرهه للواقع الذي يعيشه، وغيرها من الأعراض التي تجعل الشخص كائنا غريبا في مجتمعه، أشبه ما يكون بالمسخ، لا هو بالغربي فيرتاح ويريح، ولا هو بالعربي فيهنأ ويستكن.. هؤلاء المسوخ تحديدا من أهم عوامل انحطاط الأمم.. والله المستعان.

0 التعليقات :

إرسال تعليق