فوضى النسب الشريف

 

في البدء لا بد من التأكيد على أن محبة "آل البيت" ليست فعلاً مستحبا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، إنما هي واجب حيث يثاب محبهم ويعاقب مبغضهم، لكن كما أن هنالك أخطاء تمارس في الصلاة والصيام والزكاة، فإن هنالك أخطاء تمارس عند التعامل مع "آل البيت"، هذه الأخطاء المتفاوتة أنتجت اليوم سوقا متكاملا بدكاكينه وبسطاته يتاجر فيه مرتزقة، بضاعتهم مجموعة وثائق مزورة وأشجار نسب مفبركة تباع لقاء دراهم معدودة فيشتريها زبائن مرضى بعقد نفسية متعددة ربما أقلها الشعور بالنقص وفقد الهوية.

لكن هل يقع اللوم هنا بالكامل على التاجر والزبون؟! بمعنى آخر: ما الدوافع الحقيقية وراء كل هذه المسألة؟ فأغلب ما يتم عرضه من دوافع ليست إلا عملية تمويه على المشكلة! فالمشكلة ليست في التاجر ولا الزبون إنما في ثقافتنا نحن، ثقافتنا التي ضيعت الوسطية في التعامل مع "آل البيت"، وإن نشوء سوق لتزوير النسب دليل على أننا حين ضيعنا الوسطية لم نتجه للمجافاة إنما للغلو في محبة "آل البيت"، وهذا هو بيت الداء، الغلو في محبة "آل البيت" اليوم هو المسؤول الأبرز عن تجارة النسب.

لو كان الأمر مجافاة حقاً لما نشأت الرغبة في أحدهم أن يدعي الانتساب لآل البيت، لكن بما أن الأدعياء كثر، فعلينا البحث عن الأسباب في ثقافة التعامل مع "آل البيت" التي غالباً ما يتم السكوت عنها والاكتفاء بتقريع المزوِر ومن زور له. ثقافتنا اليوم فيها تقديس مبطن أحياناً وأحياناً صريح تجاه "آل البيت"، هذا التقديس بدرجاته سهل على بعض المنتسبين لآل البيت والذين لا هم لهم إلا الدنيا أن يتحصلوا على مكتسبات اجتماعية أو معنوية وقد تصل للمادية، وإن الحصول على هذه المكتسبات لمجرد النسب سبب كاف ودافع رئيس لخروج ألف أفاكٍ دعي، إذاً المسألة ليست أن الأدعياء مرضى إنما ما هي المسببات التي جعلتهم يمرضون؟

وللأمانة فإن الوسطية تجاه "آل البيت" حاضرة عند أهل السنة وقد تنحو أحياناً إلى التقديس على خجل، لكن في الطوائف الأخرى التقديس صريح بلا خجل، فتجد من يقدم المنتسب لآل البيت لصدر المجلس، حتى وإن كان صاحب هذا النسب جاهلاً وكان في الحضور شيوخ أجلاء وعلماء، فإن كان صاحب النسب يقدم على صاحب العلم فمرحباً بالجهل والتبعية، إن كان المرء يحظى بالقداسة لأسباب وراثية سيكون قوله مقدسا وفعله مباركا وإن كانت حركاته تهريجا وأحاديثه هذيانا، وأيضا هنالك أموال تدفع فتغري الملالي أن يحولوا عمائمهم البيضاء بقدرة قادر إلى سوداء حالكة، وبمناسبة الحديث عن العمائم السوداء ألا يمكن القول إنها نوع من التمييز ما أنزل الله به من سلطان، تمييزاً قد لا يختلف عن مبادرة أحدهم للتعريف عن نفسه "أنا السيد فلان أو أنا علان الشريف"!

عموماً حتى مع الوسطية لا بد من إعادة النظر، فمجتمع اليوم ليس بمجتمع الأمس، مبادئ المواطنة دخلت على الخط، والتطور المعرفي زاد رافعاً معه الوعي الديني والفكري الحقوقي وغيرها من المفاهيم التي تتعارض مع كل أشكال التمييز، عليه فلا بد من إعادة النظر أو ضبط المسألة على أقل تقدير، فالمشهد تطغى عليه ضبابية لا يمكن تجاهلها، والأمر ما عاد مجرد تكريم وحفاوة كوضع رأس المفطح أمام الضيف من "آل البيت"، إنما تخطى إلى توفر مكتسبات معنوية ومادية عديدة، هذا بغض النظر عن التنزيه والتعظيم أحياناً، أيضاً لا يجب تجاهل حقيقة أن المظاهر اليوم بالنسبة للكثيرين هي المعيار الأهم، والكائنات القشرية لا يهمها حلال وحرام فالأهم أن يكون الواحد منهم محط الاهتمام بأي ثمن، فما المخرج من كل هذه الفوضى؟ وكيف يتم التوفيق بين تكريم "آل البيت" مع عدم إيهام الآخرين بأنهم أقل؟

قد يقول قائل إن الموضوع ليس بتلك الضخامة التي تستحق الحديث عنها، حسناً بماذا نفسر إصرار زعيمي أكبر عصابتين في الوطن العربي "حسن نصرالله" و"أبو بكر البغدادي" على حشر اسميهما في هذا النسب الشريف؟! إنهما يستغلان كل هذه الفوضى ليستمدا الشرعية والقدسية التي تجعلهما يمارسان التطرف والدموية بأريحية وعدم محاسبة من قبل الأتباع، ولو أن هؤلاء الأتباع لم يأتوا من بيئة ثقافية تغالي في محبة "آل البيت" لما لعب زعيما العصابتين بهذه الورقة من الأساس، لكنهما لعبا بها ونجحا في لعبتهما، ولو أنهما لم يجدا في هذا الادعاء مكسباً دنيوياً لا يستهان به لما عضو على شجرتهم المفبركة بالنواجذ. أليس كذلك؟! إذاً هنالك خلل وهو ليس بالخلل غير المؤثر بل إن له إفرازات تساهم في التخلف الذي نعيشه.


ختاماً، لا أقول هنا: هذا رأيي السديد، قد حسم الأمر. إنما فقط أحاول أن أفهم كيف بالإسلام الذي نبذ كل أشكال العنصرية والقبلية والتفاخر بالأنساب، أجاز للبعض أن يردد كلمة "لكن"، لكن تفاخرنا نحن وتميزنا له غطاؤه الشرعي المقدس فالزم حدودك يا فتى! قد قالها علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: لعمرك ما الإنسان إلا بدينه، فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب. قد رفع الإسلام سلمان فارسٍ، وقد وضع الشرك الشريف أَبا لهب.. والله أعلم.

0 التعليقات :

إرسال تعليق