فضفضة عن الإلحاد في السعودية


عشرون عام قضيتها بين أخذ ورد، سؤال وجواب، بحث وقراءة، تصيد أخطاء وتعلم من أخطاء. حاورت، جادلت، ناقشت، ثم لم أقتنع بالكثير من أراءهم ولم يقتنع كثيراً منهم بما أقول، إلا أنني مع الوقت بدأت ألمح هدفاً أسمى من هدف الإقناع وفرض الرأي وهو التعلم والتأمل والبحث عن المعنى خلف كل شيء، هدف التقدم للأمام عبر خوض الجدال والحوار مع من يقف على الطرف الآخر، فالحوار مع النقيض أراه أكثر فائدة من الحوار مع الشبيه الذي سأحدثه وكأنني أتحدث إلى المِرآة وحينها لن أستفيد، بينما الذي يقف في الإتجاه المُعاكس يرى الأشياء من زوايا مُختلفة وهذا ما أحتاج.
الله –عز وجل- ليس فكرة، ليس نظرية، ليس مفهوم أو مبدأ، إنه –سبحانه- داخل كيان الإنسان، رُّوح منه تسري في أجسادنا تجعلنا نُؤمِن به دون الحاجة إلى كثير علم وتعمق في الفلسفة، ورغم الحاجة الفطرية إلى الإيمان به إلا أنه –سبحانه- قد خلق فينا القابلية للغرور وكل هذه الرغبة في التحرر، هذا المزيج من التناقضات داخلنا هو ما يدفعنا إلى التعلم والتأمل والبحث عن المعنى خلف كل شيء، تناقضات تجعلنا نرى المشهد نفسه من زاوية عديدة لكي نستطيع أن نتقدم.
هكذا أرى الإيمان والإلحاد، أنهما تناقضات تُساهِم في دفع عجلة تطور الإنسانية (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً) وقد لا يتفق معي الكثيرون حول ضرورة وجود الإلحاد في الفكر الإنساني لكن هذه هي طبيعة الحياة، لا قيمة لشيء إن لم يكن له ضد ونقيض، كالضوء والظلمة، كالصحة والمرض، كالفكرة التي لا تخرج إلا عبر العديد من الإحتمالات المتضادة. ولا أقول هنا بأن الإلحاد شيء جميل لكنه حتماً مفيد بسبب وقوفه على الطرف الأخر من المشهد، هنالك بجانب الظلمة والشر والمرض، بجانب تلك الأشياء التي تجعلنا نُدرِك أن للإيمان والصحة والخير قيمة.
إلا أن الإلحاد ليس كله على درجة واحدة، كما أن الإيمان كله ليس شيئاً واحداً، فهنالك الإلحاد الإيجابي وهو نقيض العلماء الربانيون الصادقون، كلاهما عملات نادرة وحالات شاذة، إنه إلحاد يأتي عن علم وسعة إطلاع وبحث دؤوب عن المعنى والحقيقة. هنالك الإلحاد السلبي العبثي والتحرر لمجرد التحرر، وهذا النوع يأتي عن جهل أو غرور أو كِّبر وإستعلاء لا أكثر، هو بكل بساطة حالة من عدم الإيمان لمجرد الرغبة بعدم الإيمان عكس الإلحاد الإيجابي الذي يقوم على إيمان عميق بالعدم.
عموماً .. الإلحاد في السعودية بشقيه الإيجابي والسلبي ليس موجود كما نتصور إلا في حالات بسيطة جداً، لكننا نُطلِق مصطلح الإلحاد للتمييز فقط، تمييز كل حالة تمرد ورفض وعدم خضوع للمألوف والسائد، نُطلِق على كل هذا وصف إلحاد لنرتاح من عناء البحث عن الأسباب والمسببات، نُوهِم أنفسنا أن مشكلتهم مع الله حتى نُغطي على حقيقة أن مشكلتهم الأساسية مع وجود وكلاء لله يحتكرون التشريع والتقرير والتنفيذ نيابة عنه، نُصِر على سماع كل صرخة "لا" يُطلِقونها بأنها "لا إله" رغم أن معظم لائاتهم دنيوية بحتة "لا للفساد، لا للمحسوبية، لا للبطالة، لا لقال الله بلا تطبيق عملي، لا لمزيد من التخدير والحث على الصبر والوعظ بالزهد، لا للمسكنات والمهدئات"، وإننا إذا ما أصلحنا كل تلك اللائات نستطيع حينها أن نناقش الإلحاد كمشكلة عقدية فعلاً.
أما عدم إصلاح تلك اللائات هو ما يُضفي على هذه الحالة من التمرد والرغبة في التحرر صفة الفوضوية، كما ويجعل منها أداة سهلة في يد مُتطرفون دينياً ومذهبياً لتحقيق مصالحهم الدينية والمذهبية والتي قد تصل إلى مصالح سياسية، وسيتفاجأ المرء كما تفاجأت خلال كل تلك السنوات من الحوار والنقاش بأن بعض مدعي الإلحاد الغير سعوديين هم في الحقيقة متطرفون دينياً أو مذهبياً يستغلون هذا التمرد والرغبة في التحرر لخدمة توجهاتهم التي لن تتحقق –كما يعتقدون- إلا في حالة حدوث طلاق مع الإسلام.
إذاً .. وخلاصة القول أنه لا يوجد في السعودية إلحاد بمعنى إلحاد، إنما هي مجموعات تريد أن تثور على السائد، وتُعلِن عن غضبها من كل هذه التناقضات الإجتماعية، مجموعة لم تكن لتكون بكل هذه الوقاحة وقلة الأدب إن وجدت من يحتويها بالحوار والإقناع لا بالتهديد والوعيد، لكن كيف تتم محاورتهم ونحن في بيئة تعتمد على الحفظ والتلقين كمبادئ أساسية للتعليم؟!.
إن عدم إحتواء هذا الشباب التائه سيجعل الفكر الإلحادي مستقبلاً هو الملاذ من الفوضى التي تُمارس بإسم الدين بعد أن كان الفكر الديني ملاذاً للتائهين، وحتى يعود الفكر الديني ملاذاً علينا أن نعترف بأن الأفكار الإلحادية هي الضد والنقيض الذي نحتاجه لنتقدم، علينا أن نتخلص من فكرة أننا لسنا في حاجة لذلك النقيض حتى نُدرِك قيمة الإيمان، علينا أن لا نُجبِر التائهين عبر "الإكراه في الدين" على أن يقفوا جميعاً في نفس المكان لرؤية نفس المشهد من نفس الزاوية، زاوية أننا مجتمعاً ملائكي ويجب أن يظل مجتمعاً ملائكياً.

0 التعليقات :

إرسال تعليق