الحمد لله أنني لست معلم !



بدأ المعلم قديماً كـ "رسول" ثم انحدر اليوم إلى "مراسل" لا مهمة له إلا الطواف بين الوزارة والتربويين وأولياءِ الأمور، يسترضي هذا ويترجى هذا ويبرر موضحاً ومعتذراً لولي الأمر بقوله: قد أغواني الشيطان يا سيدي، ووسوس لي في لحظة ضعف بأن أرمق ابنكم المصون بنظرة إزدراء بلا قصد، لا أخفيك أني كنت أظن –وإن بعض الظن إثم- بأن ابنكم الكريم كان يهز الوسط أثناء الشرح، أما الآن وبعد التوبة والأوبة اتضح بأن ابنكم النجيب ما وقف إلا لينفض ثوبه وسط تصفيق بقية الطلبة !، وها أنا أقدم بين يديكم كامل اعتذاري وأسفي وندمي على ما بدر مني بلا قصد، مع الوعد بأن لا يتكرر مني مثل هذا الفعل المشين.

***

إن البيئة التعليمية تشهد تطوراً ملحوظ، المواد التعليمية يجري تحديثها على الدوام، المباني المُستأجرة يجري إبدالها بأخرى لائقة، التقنية دخلت بقوة في مسار التعليم، إلا أن لا فائدة من كل هذا طالما المعلم محبط أيما إحباط، مهان في كل فصل ومدرسة.
إن المعلم بات يخشى ويخاف ويحذر ويتردد كثيراً قبل أن ينبه أو يحاسب أو حتى يبدي ملاحظة تجاه الطالب، لا يخاف من الطالب إنما من القرارات التي تحمي الطالب منه وكأنه وحش يريد إهانة أدمية الطلبة بلا رحمة، يخاف أن يعاقب الطالب فتأتيه ورقة المساءلة ليتحول بعدها إلى التحقيق وينتهي به الأمر إلى كتابة تعهد بعدم العودة إلى مثل هذه التصرفات التي من شأنها أن تؤرق نفسية الطالب وتقلق منامه.

إن المعلم يا سادة لا يعلم فقط، إنه يعلم ويراعي ويشرح ويصحح ويوجه ويربي ويحتوي، إنه يتعامل بكل هذا مع العديد من الطلبة الذين يتغيرون من فصل لفصل، كل طالب من هؤلاء يختلف عن الأخر في أسلوب الحديث والتربية والتعامل والأفكار، هذا لا يستوعب إلا بصعوبة، ذلك ينام في الفصل، ثالث يضحك بلا سبب، ورابع يسعى إلى إثبات نفسه عبر إهانة بقية الطلبة.
المعلم يواجه أشياءً كثيرة ترفع الضغط وتخفض السكر وتلهب المعدة وتقوم بتصليب الشرايين، ثم يكافئ بعد كل هذا بقرارات رسمية من قبل وزارة التربية والتعليم تهضم حقوقه وتقلل من قيمته وتجعله إنساناً مأزوم، قرارات تتعامل مع المعلم أنه كائن سلطوي متكبر بالفطرة لابد من الحذر منه على الدوام وتحذير الطلب من بطشه ! .. ما هذا بالضبط ؟!

***

إن التعليم كما عرفه أحد المُفكرين بأنه ( روح المُجتمع ) والمعلم هو حجر الأساس في المنظومة التعليمية، حجر الأساس هذا بات يتلقى الحصى والحجارة على رأسه من كل إتجاه حتى فقد توازنه وهيبته التي هي بمثابة رمانة الميزان في التعليم، هيبة من شأنها إذا ما تواجدت أن تداري على الكثير من سوءات التعليم، فإن غدى المعلم بلا هيبة فكل حسنات النظام التعليمي ستغدوا سيئات.
لابد من وضع الحلول الجذرية لا لإعادة هيبة المعلم فقط إنما لطمأنته وإعادته إلى موقعه الطبيعي والمنطقي في المجتمع، وإن لم نستطع توفير السعادة له فأضعف الإيمان أن نحدد ونقلل من أسباب تعاسته.
إن الحديث عن هيبة المعلم لا لأنه معلم فقط إنما لأنه مربي أيضاً، وإن لم تكن للمربي هيبة فلن يفلح في التعليم أبداً، وإن من الخطأ أن لا يؤدي المعلم دور المربي، أما المصيبة أن يطالب بأداء كلا الدورين دون أن تكون له قيمة.

***

لا أحد يطالب بإعادة العصى ليد المعلم، فالتعليم بالعنف والتخويف خطأ، إلا أننا لابد وأن ننتبه إلى أن الأخطاء الناتجة عن التعليم بالعنف تتساوى مع الأخطاء الناتجة عن التعليم باللين والرفق ومعسول الكلام ومراعاة المشاعر على توافه الأمور.
نعم، المعلم ليس بالإنسان المقدس ولا هو بالمنزه عن إرتكاب الأخطاء، فلديه عيوبه ومشاكله، إلا أن هذا ليس بالعذر أبداً لكي يتعامل المجتمع مع المعلم بكل هذه الحيطة والحذر، فالمبالغة في مراقبة المعلم وتصيد أخطاءه ستجعل المعلم يصاب بالإحباط في الأخير، والمحبط سيعمل من أجل الراتب فقط، سينقل المعلومة من الكتاب إلى السبورة دون الاهتمام بتمريرها إلى عقل الطالب.
المعلم المحبط لن يهتم بعقل الطالب هل إمتلأ أم لا يزال فارغ، فمهنياً هو قد أدى بالضبط ما يستلم عليه راتب أخر الشهر، أدى الأمر دون أن يحاسب أو يعاقب.

***

إن هذا الموضوع ليس من أجل المعلم، إنما من أجلي أنا كولي أمر يهتم بأمر أبناءه، ولي أمر لا يتمنى لأبناءه معلم يشرح المعلومة ورأسه يكاد ينفجر بالهموم، لا يريد لهم معلماً ملاحقاً بالقرارت مدركاً أنه قد يحاسب أشد الحساب على أتفه الأسباب.
لا أريد لأبنائي أن يشاهدوا المعلم يتشرشح في وسائل الإعلام، فيضحكون عليه بينما هو يعتذر ويستعطف ويسترضي، وكأنه قاتل محكوم بالقصاص.
لا أريد لأبنائي أن يكون شغلهم الشاغل أن يتصيدوا زلات المعلم.
لا أريد لأبنائي أن يقفوا موقف الند للند أمام المعلم.
نعم سأحاول أن أغرز في أبنائي هذه المبادئ والمفاهيم، لكن مهما اجتهدت كولي أمر فلن يجدي الأمر نفعاً طالما المسئولون عن التعليم يشجعون أبنائي أن يجعلوا من أستاذهم أضحوكة.
أريد من أبنائي أن يخافوا من المعلم ويحترمونه ويقدرونه إلا أن في التعليم من لا يريدهم أن يخافوا من المعلم ولا أن يحترموه.

أخيراً .. علينا أن نعيد المعلم إلى وضعه الطبيعي في المجتمع، علينا أن نطمأنه إلى أن له قيمة لابد وأن يتم إحترامها، لقد أصبح المعلم اليوم مادة إعلامية قابلة للمضغ، ما إن يخطئ إلا وتتلقف وسائل الإعلام هذا الخطأ وتبدأ في مرمطة المعلم على الملأ !

علينا أن نقول ( كفى ) كفى غرساً للعلقم فوالله لن نجني إلا المر بهذا النهج السقيم، إننا إن كنا اليوم نستنكر حمل معلم الأمس للعصى فماذا سيقول أبنائنا عن معلم كان يتقي شر العصى ؟!

0 التعليقات :

إرسال تعليق