احترامي للعصامي


عصامي، حياته عبارة عن مشهد درامي، في شبابه كان يبيع أعواد الفجل والجرجير على بسطة ملاصقة لمسجد حي شعبي، وتحديداً هناك، ليس في المنتصف إنما أقرب لدورات المياه، هنا بالضبط قضى المسكين معظم حياته، فقير جيعان ويعاني.
فجأة قرر يبيع حزمة الفجل بريالين، يصرف ريال ويجمع الثاني، لين الله فتحها عليه وصار حرامي يرتشي ويختلس ويشهد بالزور ويزور في ورق رسمي، وبعد العصر يغسل الأموال إلي جناها من بيع الجرجير، ومن باب التنويع في مصادر الدخل بنى له شركات وهمية يرسي عليها عقود ومناقصات ومشاريع ضخمة تُمرر بالكامل لمقاولين الباطن، وبمبدأ "طبطب وليس، يطلع كويس" بات صاحبنا نزيل بالإكراه في الـ"ريتز كارلتون".

الساعة السابعة صباحاً صار العصامي مسئول، وفي المساء فتح خزنة الوزارة عشان يأمن مستقبل عياله، ثاني يوم عين ولد أخته الهلفوت في منصب مدير عام ما يداوم إلا يوم واحد في الاسبوع، وبالنسبة لزوج بنته فنظراً لما تقتضيه المصلحة العليا تم تكليف صهره المصون بمنصب مستشار أعلى، على أن يعامل معاملة موظف بالمرتبة الممتازة تمهيداً لتنصيبه وكيلاً للوزارة بعد صلاة المغرب مباشرة، أصل البنت أقرب لقلب الأب، وهو خايف عليها من الإحراج إذا في يوم صاحبتها سألتها، كيف تتزوجي موظف عادي، وأبوك أكبر عصامي في البلد؟، يبيها إذا واجهت هالموقف، ترفع راسها وتقول: لا، زوجي ما هو عادي، أصل الوالد رقاه بقرار إستثنائي.

تقاعد العصامي، وأخيراً التفت لأخرته، بدأ وهو في التسعين يستغفر وصار شيخ وصار يفتي ويخطب فينا بتقوى الله وتجنب سبل الحرام، ومن غيره الخبير المتقاعد في الحرام يشرح وبالتفصيل كيفية تجنب سبل الحرام، الرجل قضى جُل عمره سالكاً جميع دروب التهلكة كي يوعينا ويهدينا لطريق الحق، ونحن الذين كنا نظن أنه كان يخوض في الحرام كهواية، يحق له إذاً بعد أن تقاعد ووكل أبنائه بإدارة نهب الوطن أن يعظنا توجيهاً وإرشاداً ويبين لنا كيف أن الذنوب هي السبب الرئيسي لإرتفاع الأسعار، وطبعاً كان الحديث حينها عن ذنب فك تشفير قنوات فضيلته.

---

إن الغالب على قصص العصامية والنضالات الشريفة، التي أزعجنا بها بعض أصحاب الفخامة والنيافة على مدى عقود، الغالب على هذه القصص أنها تستعرض البداية والنهاية فقط، كأن يحدثنا أحدهم أنه بدأ بعمل بسيط في مكان وضيع وأنتهى اليوم كأحد كبارات المجتمع، وفي الحقيقة أنا لا تهمني نقطتي البداية والنهاية، ما يهم فعلياً هو المشوار الطويل ما بين البداية والنهاية، كيف كان السيد عصامي يبيع الفِجل والجرجير في بداياته هذه مسألة لا تهم، المهم هو كيف ترك تلك البسطة، هل فاز بمناقصة تزويد وزارة من الوزارات بما يلزم من فِجل وجرجير مقابل مبالغ خيالية؟، هل باع ضميره وخلع ذمته كما يخلع المصلي حذائه؟، ما الذي حدث بالضبط؟، هذا ما لا يخبرنا به كل الذين أزعجونا بالحديث عن عصاميتهم ونضالهم الخنفشاري الشريف في هذه الحياة.

إن المشوار الطويل ما بين بداية السيد عصامي ووضعه الآن، مشواراً زاخراً بالتفاصيل، والشيطان تربع مبتسماً على هذه التفاصيل، العلاقة في هذه التفاصيل علاقة سيداً وعبد، الشيطان هنا هو السيد والحرامي عبد، والعبد ما تنفع معه موعظة أو نصح باللين، بالسوط لين يعض الأرض راح يلتزم بالحق، الحرامي ما له رب أو دين ولا راح ينصاع إلا للقانون، هو عبد لشيطانه وشهواته وأطماعه، ومن كانت هذه خصاله طبيعي يسلك دروب الأنذال وينهب وطن، والسالفة ما تحتاج مزيداً من التفصيل، الوضع بإختصار كان طينة، كنا نضرب تحية للمختلس ونقول للمرتشي يا شيخ، وأرحب طال عمرك لك وأقلط يا حرامي.

0 التعليقات :

إرسال تعليق