جـعلـوه مـُـلـحـِداً

كنت أحسب أن الإلحاد في الوطن العربي مُجرد ظاهرة " خنفشارية " إخترعتها أقلام هنا وهناك لإيهامنا أن لهذه المجتمعات وجهاً أخر غير الذي تتلحف به زمناً .
كنت أحسب أن المجتمع العربي فاضلاً طاهراً عفيفً وأن الإنحرافات فيه مُجرد معاصي و ذنوب قابلة جداً لأن تُمحى بتوبة و آوبة نصوح .
كنت أحسب وأعتقد و أتخيل و أتصور أشياءً وأموراً كثيرة ، أغلبها إن لم يكن كلها سقط في هُوة الوهم ، لأكتشفت أن المدينة الفاضلة مُجرد خيال غير قابل للتطبيق ، وأن حيثيات الواقع الذي نعيشه يختلف تمامً عن أوهامنا الجميلة تجاهه ، وأن الفضيلة ليست أكثر من حبراً على ورق فأغلب أصحاب الفضيلة هم أول الخطائيين وإن كانوا صالحين .

---

اليوم لم يعد من مجال للتشكيك بصِدق نبوة محمد -عليه الصلاة و السلام- لمن ألقى السمع ، فالحاضر الذي نعيشه أكبر دليل أن هذا النبي الأمي –صلى الله عليه و سلم- ما كان ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وها نحن نعيش صـِدق نبوته فعلاً ، فنحن مُذبذبين بين الكُفر و الإيمان بين الجنة و النار ليس لنا من قرار . ينام الواحد فينا تقياً ورعاً باكياً خاشعاً ثم يستيقظ عُتلاً زنيم ، يمضي يومه غليظاً في كفره وما يلبث أن ينام على طهارة فوق سجادة الصلاة ! . لسنا إلى الإيمان أقرب ، لسنا إلى الكُفر أقرب ، قلوبنا بين أًصبعين من أصابع الرحمن نزيغ لحظة و نستقيم لحظة ، قد أصبحنا تائهون بقية يومنا حائرون أبد الدهر .

كنت أحسب أشياءً كثيرة و أتخيل أحداثاً أكثر ، لكن لم يطري على أبعد خيالاتي أن أعيش تصديقاً لنبوة نبي العالمين ، أن يكون واقعنا زاخراً نتناً بفتناً كقطع الليل المُظلم حتى يـُصبح المُسلم فينا كافراً ويُمسي مُؤمناً .
وها قد رخُصت بضاعة الدين في بلاد العرب حتى أصبح البائع لدينه ما إن يقبض الثمن حتى يهرول ليشتري عرضاً من الحياة الدنيا من عند أقرب طاغية .

---

من الصعب أن نقول أن الإلحاد قد تفشى ومن الصعب أيضاً أن نقول العكس ، لأننا مبهورون بجمال صورتنا في أعين الأخر ويهمنا أن يرانا الأخرون من خلال قناع الدين ، وطالما هذا القناع يُؤدي الغرض على أكمل وجه " حتى الأن " فلا يضر أن نكفر من خلف القناع ونُلحد أيما إلحاد .
وعلى الرغم من إصرارنا على الظهور بمظهر القوي المتين ذلك الذي لا تهُزه مشاعر الشك ، إلا أننا يا سادة مُمزقون بالشك حد الشتات ، لذلك ليس بمستبعد أن يظهر المُلحد وهو مُلتحياً حافظاً للقرآن ، فيهمه كما يهم أكثرنا أن يرانا الرائي فيحسبنا أتقياء ورعين ، و أصبح الله في عرفنا أهون الناظرين !!

---

نعود لعنوان الموضوع ( جعلوه مُلحداً )
لنـُصيغ السؤال كالتالي : ( من هم ؟ )
فيأتينا الجواب الذي لا نُريد أن نـُقـِر به : أن الواقع الذي نعيشه أكبر دافع إلى الإلحاد ، وعندما نقول الواقع فهذا يشمل كل الوجوه التي إعتلته حتى شوهته ، كل أنواع الإفساد " الديني و الثقافي و السياسي " و أكبر الدوافع أن كل أبواب الإعتراض قد غـُلقت ثم تـُرك باب الإعتراض على الله مفتوحاً لحاجة في نفس شخصاً ما .
وليس هذا مقام خلق الأعذار على فعلٌ قبيح كقبح من يتخذ الأعذار ليُلحِـد ، إنما لنعتبر الأمر مُجرد خوض في الأسباب التي دعت البعض إلى إعتبار الدين قيداً قد أدماه فوجب كسره .


(1)
لنقل أن أول الأسباب هي ،،،
أن العقلاء منذ القـِدم ما فتِئوا يُذكرون الناس بأن التشدد في الدين مدعاة إلى النفور منه ، و على الرغم من هذا النـُصح فإن الجـُهلاء ما فتـِئوا يـُصورون للناس أن التشدد في الدين هو السبيل الوحيد للحِفاظ عليه . و لزياد الإقناع خلقوا في المجتمعات أوهاماً كثيرة كالمؤامرة و الأطماع الخارجية و الأحقاد ووو فقط ليتقبل الناس وجود التشدد كضرورة للحفاظ على الهوية ! .. سحقاً
إن التشدد يُحول الدين من نهج سلس تـُعمر به الأرض إلى سلاسل تـُقيد كل من يسعى إلى إعمار ذات الأرض ، والإنسان بطبعة وفطرته التي فطرها الله عليها يكره أن يتم إكراهه على أي فعل يكره أن يُدفع إليه دفعاً حتى وإن كان ذلك الفعل فعل الخير .
وما هو التشدد إلا إكراه الناس على فِعل الخير ، والأشد مرارة أن يـُكره الناس على فعل ما يراه الدافعون أنه خير حسب إعتقادهم ، وتلك مصيبة أعظم .
ثم إن التشدد لا يترك أمام الإنسان حُرية للإختيار ، فكل الألوان حينها ستكون إما أبيض أو أسود وعندما يطفو على السطح لون رمادي تستنكِـره عقلية التشدد فوراً ، ومن هنا تختلط كل الألوان فوراً فيُصبح الأسود أبيضاً و العكس ، لذلك نسمع أحياناً من هنا وهنالك عن طلبة عِلم وحفظة قرآن نزعوا كل ذلك أمام الإشكاليات الفِكرية وألحدوا ، فهم تربوا أساساً على " إما أبيض أو أسود " لذلك فإن أي خلل سيعني الإنحياز للطرف الأخر فوراً فلا مكان للوسط .


( 2 )
ثاني الأسباب هو ،،،
عندما يستند الإستبداد السياسي على الرأي الديني فيُوظفه ليعمل لديه خادماً مطيع ، حينها سينشأ جيشاًَ عرمرم من أهل الدين الأشداء الغِلاظ البارعون في لي الكلِم عن موضِعه ، وتحريف كُل آية وحديث إلى الوجهة التي تُشرع أمام المجتمع كل أفعال الإستبداد .
فيُجبر الإنسان حينها على أن يقوم بتقبيل يدي ناهب رزقه و أرضه وإلا فالنار مثواه ! ، على إعتبار أن التقبيل هنا أمراً من الله واجب التنفيذ شرعاً .


( 3 )
أما عن السبب الثالث ، فحدث ولا حرج ،،،
فكم قدسنا من إنسان ليس موضع تقديس ، وعلى الرغم أننا متيقنون أن لا قدسية لبشر ، وأن النبوة قد إنقطعت بخاتم الأنبياء –عليه الصلاة و السلام إلا أن الكثيرين مازالوا يُـقدسون هذا الشيخ أو ذلك العلامة ! ، ليكون كلام المُقدَس حينها من كلام الله وفعله من فعل الله ، لتتحول هنا العقيدة من التوحيد إلى الإتحاد .
وهذا يصنع من الشخص الذي يقدس تابعاً لا أكثر ، وضيعاً أمام سيداً لا يُخطيء وإن زنى ، والإنسان قد خُلق مُحباً لعدم التبعية مفطوراً على الحرية .
ليكون تقديسه هنا سبباً في العزوف عن الإيمان .. لا أكثر .


( 4 )
لنقل كذلك أن رابع الأسباب هو ،،،
أنه كثيراً ما يتم تـشديد الخِطاب في وجه كل من يريد أن يُعمِل عقله ويفكر بما يُرضي منطقه و إن كان منطقه أعوج ، فيُكفر حينها و يُزندق و يُرمى بأشنع التُهم لأنه فكر !
رغم أن الله هو أول الداعين إلى إعمال العقل وعدم إعتبار الكثير من الأمور على أنها قضايا محسومة ، فلم يُحرم الله الجدال .
كمثال : قضية كقضية الإختلاط هي محل جدال لكنها عندنا تعتبر قضية محسومة سلفاً لا محل للجدال حولها ، و أن المُجادِل و المُجادَل في النار !
ولنقس على هذا الكثير من القضايا من حولنا سنجدها قد حُسمت في مُجتمعنا وقُفِل عليها بمفاتيح تنُؤ بأولي القـُوة أن يحمِلوها .
كالحِجاب ، كعمل المرأة ، كمُحاسبة المسئول ، كإنتقاد أصحاب الفضيلة ، كالأغاني ، كالإسبال ، كصلاة الجماعة ، ككثيراً من مطارح الجدل التي تحولت في المجتمع إلى يقيناً بحرمانية إتيان مواضعها ووجوب الإنقياد لرأي من حسموها .. هكذا بلا حتى إقناع .
فأي دين هذا الذي يـُحرم إعمال العقل ؟ ، وكم سيكون هشاً حينها ؟


 5))
السبب الخامس ،،،
يتمثل في هذا البُؤن الشاسع بين الواقع وبين أوامر الله وسُنة نبيه ، فكم عالماً دعا الجميع إلى الزهد في الدنيا من قصره المليء بخيرات الأرض ؟
وكم داعياً إلى ترك المعاصي ترك دعوة المُفسدين في الأرض أصحاب المناصب و الوجاهات و تفرغ لصغائر الأفراد ؟
وكم أقمنا الحد على لصوص الرغيف مُباركين في ذات الوقت سرقات المترفين ؟
وكم وزيراً عبء جيوبه و جيوب حاشيته بالرشاوي حتى فاضت به وطفح الكيل ، ثم يحضر إلى المسرح فنستقبله بآياتٍ من الذكر الحكيم ؟
وكم إمتلئت أرزاق المواطنين بالربا ، رغم توعد الله كل قوم إتخذوا من الربا سبيلاً للنمو الإقتصادي بالهلاك ؟
وكم جاهلاً يعتلي المنابر ليُحرم التفكير و إعمال العقل ، داعياً إلى إتباع جهله ؟
وكم وكم نـُعاني !


---


هي أشياءً كثيرة تحدث حولنا ، أموراً عظيمة من صُنع يدينا ، كلها تُصنف تحت " فتنً كقطع الليل المُظلم " تخلق في النفوس قناعات هشة تدروها أخف الرياح !
قد عددت منها خمس ، وتركت منها ما تركت تعمداً والأقرب أنه جهل .
ونحن مجتمع لم يخلق الله أفراده من نُور إنما من طين لازب ، يتأثر الفرد فينا بالظروف خصوصاً إن كانت الظروف المُحيطة تـُفقد الرشيد رشده وتُخرج الحليم عن هدؤه .
واقعنا مليء بالتناقضات ، فنحن مثلاً نتقرب إلى الله بالركوع للطغاة و الطغاة لم يقل أحدهم " أنا ربكم الأعلى " إنما أوهمنا أن الله لن يرضى عنا إن لم نركع له !
يمكن القول أن الأصنام التي نعبدها من دون الله ، تشاركنا هي الأخرى عبادة الله كتمويه حتى نتغنى بفضلها
أصناماً ظهرت علينا بمظهر الموحدين لتـُبرر تآلهها علينا ، حتى شرعنا الخنوع ! ... فأين في التاريخ واقعاً أقبح من واقعنا ؟


----------   ----------


ثم أما بعد :
إن كثيراً من المُدافعين عن حياض الدين اليوم " رجاله و علمائه " موقفهم أمام موجة الإلحاد التي بدأت في التفشي موقف المتفرج البليد ، غايتهم القصوى أن يُقال لهم " كثر الله من أمثالكم " ولن يقال لهم هذا إلا إذا كفروا المُلحد ! وهم يضحكون على أتباعهم لكسب المكانة بهذا التكفير .
هذا إنسان تائه إتصل على فضيلة الشيخ العالم الفاضل فسأله : لم أعد اؤمن بوجود الله فدلني عليه بواسع علمك ؟
أجاب الشيخ بالبكاء و البكاء و البكاء حتى تبللت لحيته !!
من يرى المشهد سيعتقد أن الشيخ حزيناً على حال المتصل ، لكن الحقيقة الأقرب للمنطق أن الشيخ إكتشف للتو عدم معرفته بالله !

وأخرون في سبيل الحصول على المدح و الثناء و التسابق للظهور الإعلامي ، ينبرون كمدافعين عن الإيمان وأسلحتهم في هذا الدفاع السياط و الرماح ، وأقدع أنواع الشتائم و أصناف الرجم ، راكضين خلف كل من يهرب من حظيرة الدين ليُعيدوه إليها ركلاً وتنكيلاً ! ويضيع الحق ويختفي صوت المدافعين الصادقين ، فتكون النتيجة إما أن يعود الهارب كسيراً " منافقاً " أو أن لا يعود أبداً وإن صلى و صام .
والإحتمال الشبه أكيد أن كثيراً من مشاهدي هذا السيرك سينقسمون ، قسماً يتعاطف مع من يُلحد فيُلحد تأييداً له ! ، وقسماً يتحول إلى مصاص دماء يرى أن كل معصية هي إلحاد فلا ينتشي حينها إلا بشرب دماء العُصاة .



هي مجرد قرأة للموضوع من مفهومي القاصر .. فعذراً إن أخطأت فيها

0 التعليقات :

إرسال تعليق