جزى الله الشدائد كل خير





الحاضر .. محطة نرتاح فيها قليلاً من رحلة الأمس ثم نتجهز لرحلة الغد.


السعودية تشهد اليوم وتعايش تحولات كبرى، تحولات ستؤثر عليها من كل النواحي "سياسياً وإقتصادياً وثقافياً" .. تحولات ستغير ملامح هذه الدولة للأبد، ولن يعود الوضع برداً وسلاماً إلا لو عاد الزمن إلى تلك اللحظة التي تم فيها الإعلان عن "عاصفة الحزم" وتم منعها من الحدوث، وطالما الزمن لن يعود فعلينا أن تتأقلم مع حقيقة أن رغبتنا في النهوض وفرض الذات طبيعي أن تزعج الأخرين كثيراً، أن تؤثر على مصالحهم جداً، فالآخرين قاموا بتكييف مصالحهم مع وضعنا في السابق، حين كان دورنا ينحصر في المداراة والملاطفة ودفع الأموال بلا مقابل ولا إملاءات، حين كان دورنا ينحصر في التغني بصداقات لا محل لها من الإعراب.

وفي ظل هذه التحولات التي نعيشها اليوم، علينا أن نتعلم جيداً كيف نتجنب الوقوع في نفس الأخطاء التي وقعنا فيها بالأمس، كيف نتفادى السقوط في الحفر التي سقطنا فيها مراراً بحسن نية وسوء تقدير.

لقد كانت سياستنا مبنية على الظن، الظن بأن من حولنا هم فعلاً أصدقاءً ودودون يكنون لنا كامل الإحترام والتقدير، لنكتشف أن العلاقات الدولية اليوم لا تعترف إلا بالمصلحة والنفعية المجردة، المقربون من العرب لا يؤمنون إلا بمصالحهم، لا عقيدة يملكونها إلا عقيدة النفعية البشعة، من يبتسم لنا فلأن الإبتسامة تحقق له مصلحة فإن رأى في العداوة والبغضاء مصلحة ستتحقق له فسيكشر عن أنيابه دون أي إعتبار لإنكسار الآمال التي عقدناها على أخوته وصداقته.

لقد استيقظنا اليوم لنجد أغلب المحيطين بنا، أغلب الحلفاء الذين تغنينا بقربهم، ليسوا أكثر من أصحاب مصالح، وكي لا يستيقظ الأبناء غداً ويفاجئهم هذا الأمر مجدداً فعلينا أن لا نهدر المزيد من الوقت والجهد والمال في عقد التحالفات شرقاً وغرباً، فالتحالفات مشاريع ثانوية تأتي بعد التحالف معنا، بعد أن نؤمن بسواعدنا، بعد أن يكون لنا مشروعنا الخاص والقائم أولاً وأخيراً على الإيمان بإبن هذا البلد دون سواه، بعد أن يتم إصلاح الداخل بشكل جاد دون تسويف، ففي الأخير لن يراعي مصالحنا سوانا.

علينا أن نصلح أوضاعنا الاقتصادية والسياسية والثقافية كي نستطيع تحمل تكلفة مشروع بهذه الضخامة.

علينا أن نبدأ في التعامل مع الكل بمبدأ أنه عدواً حتى يقوم هو بإثبات صداقته، وليس صديقاً نتوهم مودته ثم تفاجئنا عداوته!، فقد كلفنا هذا المبدأ خسارة كل الرهانات حتى الآن، وضعنا الرهان على "جعجع والحريري" في لبنان، وعلى "الليبرالية" في مصر، وعلى "القبائل" في اليمن، لنكتشف في الأخير أننا كنا نراهن على أشباح لا تأثير لهم في أرض الواقع إلا في إحداث الشوشرة.

لقد سارع الكل مع بداية "عاصفة الحزم" إلى تقديم الأعذار والحجج للتهرب من المشاركة، ولسان حالهم "نفسي نفسي" .. وتم على إثر هذا التخاذل دفع الكثير من الأموال، وعقدت الكثير من الإجتماعات، وألقي بالكثير جداً من الرز في بئراً بلا قاع، أردنا أن نريهم كيف أن القضية ليست قضيتنا وحدنا إنما قضيتهم في المقام الأول، لكن البحث المرضي عن تحقيق مصالحهم الشخصية أفقدهم القدرة على رؤية الحقيقة الواضحة وضوح الشمس، حقيقة أن مشروع إيران لا يتوقف عند حدودنا إنما يمتد إلى وجود العرب، فالمجوس قومٌ تسيرهم أحقادهم والأطماع، كالعُمي يرفعون شعارات أخذ الثأر من الجميع بلا إستثناء.

إن المعركة ليست بين مشروع إيراني وأخر سعودي هدفه الهيمنة والسطوة، إن المعركة بين عرباً وفرس، بين مسلمين ومجوس، معركة تحشد فيها إيران الرأي العالمي لصالحها، تجمع كل المرتزقة، تستغل التشيع والشيعة وتركبهم كي تصل لأهدافها، إن المعركة اليوم معركة وجود، لكن الأصدقاء من حولنا يُعيدون ما فعلوه كل مرة خلال التاريخ، يفضلون تحقيق مصالحهم الشخصية الضيقة على مصلحة الأمة، يؤثرون الحفاظ على مكتسباتهم الدنيوية الهشة وإن أضاعوا في المقابل كرامتهم وقيمتهم.

وهذا أهم الأسباب التي تجعلنا كلما بذرنا البذور وزرعنا الزرع، جاءت إيران لتحصد كل الثمار !!


--


إن النهوض مطلوب، وتغيير المسار أمراً حتمياً ولابد منه، وقد قدر الله لهذه البلاد أن تبادر هي للنهوض وتغيير المسار ونزع ملامح السكينة والوقار التي تحلت بها زمناً، لكن هذا التغيير ومحاولة النهوض له متطلبات كما وله تبعات، فإنه مشروع ولا يزال في بداياته، وقد شهدنا في البدايات تبعات كبرى بدءً من مؤتمر الشيشان مروراً بقانون جاستا وإنتهاءً بتساقط أقنعة الأصدقاء القريبون قبل البعيدون، ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالغد حالفل بالمزيد من المفاجآت ومحاولات الصفع، وسيتساقط الأصدقاء أكثر وأكثر ..

إنها تبعات يبتلي بها الله عباده ليختبر صدقهم فيما يعزمون القيام به.

أما عن متطلبات هذا المشروع، فأن يتم إصلاح الداخل بلا تسويف، فالداخل هو الدعامة الرئيسية والوحيدة لإستمرار مشروع بهذا الحجم، بلا إصلاح داخلي حقيقي لن نصل لأي مكان.

ثانياً أن تكون كل الجهات في الدولة على قدر المسئولية، وتحديداً الجهات السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية، وإنني أطمئن إلى الدور الذي تؤديه وزارة الدفاع في الحد الجنوبي والحد الشمالي، أطمئن إلى الدور الذي تؤديه وزارة الداخلية في الحفاظ على تماسك الداخل متيناً آمناً مطمئناً، أطمئن إلى الجهاد الذي تخوضه وزارة الخارجية وهي تخوض حربها الضروس لدعم المشروع السعودي.

لكن ورغم كون تسعة أعشار اللعبة الدولية السياسية اليوم هي لعبة إعلام، إلا أنني أبداً لا أطمئن لدور الإعلام السعودي، فإعلامنا بلا شك هو الأقوى عربياً والأكثر إحترافية وجذباً للجمهور، وقد مارس الإعلام ببراعة كل الأدوار إلا الدور الوحيد المناط به، أن يكون صوتنا إلى العالم !!.

إن مشكلة إعلامنا ليست في أنه يخدم أهداف الأخرين، مشكلته أنه إعلام بلا هدف ولا قضية، وما لا هدف له فمن السهل على الأخرين إمتطائه ليحققوا أهدافهم، هذه هي كل مشكلة إعلامنا، أن قضيته الوحيدة أن يستمر في عرض البرامج الترفيهية !.

إن السعودية دولة عظيمة، ولها أدواراً إنسانية عظيمة، وإعلامنا لا يجد بين كل الأدوار التي تقوم بها السعودية ما يمكن إستغلاله ليبين للعالم مدى عظمة هذه الدولة !.

الإعلام في أوروربا مثلاً يستغل قضية اللاجئين خير إستغلال ليبين دول أوروبا أنها نصير الإنسانية وحامية المستضعفين، حتى لو آوت دولة في أوروبا مئة لاجئ في أراضيها لضخم إعلام هذه الدولة صورة اللاجئين ألاف المرات، والسعودية لم تغلق أبوابها يوماً في وجه المستضعفين، من فلسطين وتركستان وأفغانستان وبورما والعراق وسوريا .. إلخ، وهؤلاء لا يعاملون معاملة اللاجئين إنما ينظر لهم أنهم اخوة وأهل وأصدقاء لهم كامل الإحترام والتقدير، تفتح لهم الدولة أبواب المستشفيات والمدارس وأسواق العمل بلا تمييز، وهذا دوراً واحداً ضمن عشرات الأدوار الإنسانية التي تقوم بها السعودية منذ توحيدها، وليس المجال هنا لحصر كل أدوار السعودية في المجالات الإنسانية، لكن يكفي معرفة أن السعودية خلال بضع سنين صرفت في الجانب الإنساني أكثر من مئة مليار دولار، رغم هذا لا يجد إعلامنا ما يستغله لبين حقيقة هذه الدولة !.

للأسف، إعلامنا الرسمي يغط في سباتٍ عميق، وإعلامنا المدعوم يبلع "المن والسلوى" بلعاً ثم يصور للعالم أن السعودية ليست إلا صحراء لا ينبت فيها إلا الشوك !!.
فأين إعلامنا عن المشروع الذي تخوضه السعودية اليوم ؟!، ما دوره في كل هذه القضية، بالضبط ؟!.


--


لكن .. إن كان للشدائد جانبها المظلم فإن لها جانبها المشرق، فهي تبين لنا العدو من الصديق، وهي أيضاً تزيد الوعي في الفرد والجماعة، في السياسي ورجل الشارع، الشدائد تحفز على تغيير العقائد السياسية كسياسة بناء العلاقات والتحالفات التي كانت خسائرنا منها أكبر من العوائد بأضعاف مضاعفة، الشدائد أيضاً تحرض على غربلة شاملة لكل المناهج الإجتماعية، وأهم المناهج التي تحتاج إلى غربلة اليوم هو المنهج الإعلامي، فبفضل إعلامنا تاهت حقيقتنا عن أعيننا قبل أعين الأخرين.


--


لقد مرت السعودية منذ تأسيسها بالكثير من المنعطفات والمحن والشدائد، وقد تجاوزتها بفضلاً من الله، وبإذن الله ستتخطى هذه الدولة محن اليوم وشدائدها إلا أن الأمر لن يكون بالتساهيل كما لم يكن يوماً بالبركة والتساهيل، إنما بالحسم والحزم والحنكة، وبمعرفة جوهر كل قضية، وقضية اليوم أن الأخرين "عرباً وعجماً" يسعون جاهدين إلى تقزيم السعودية أو إعادتها إلى ما قبل "عاصفة الحزم" .. أن يكون كل دورها في الطبطبة والإبتسام والملاطفة ودفع الأموال بلا مقابل .. أن لا تقود العرب لأي مكان سوى الخنوع والخضوع.

فجزى الله الشدائد كل خير، قد أسقطت الأقنعة المزيفة، وكشفت لنا العدو من الصديق.
جزاها الله ألف خير أن أهدتنا فرصة لا تتكرر لنراجع فيها كل حساباتنا.

الطواف حول جيب المواطن



لست خبيراً في الاقتصاد، ولم أمش يوماً في دهاليز السياسة.
لست بصاحب فضيلة ولا مثقف نخبوي.
لست خبيراً في فنون الإدارة ولم يستضفني الإعلام يوماً بصفتي محلل إستراتيجي ولا رياضي أو حتى معالج روحي، وفي الحقيقة هي أشياء كثيرة لستها.
لست إلا مواطن ضمن جموع المواطنين يجلس على هذا الرصيف بجانب جموع الجالسين تحت أعمدة الإنارة، المزاحمين لقطط الشوارع، أراقب ما يجري وأحاول بإصرار أن أفهم إلا أني دوماً أفشل، وكلما فشلت أخذت أسأل الجالسين هنا: هل فهمتم شيئاً؟، فيجيب الكل بـ"لا" إلا أحدهم هناك دائماً يجيب بـ"نعم" والمسكين لم يقل يوما "نعم" إلا وفاجأه الجميع بنظرات ذهول مباغته تجعله يتصبب عرقاً وينسى كل ما أستوعبه.

وعلى هذا الرصيف الكل يطرح سؤالاً وحيداً مفاده:
ما الذي يوجد في جيب المواطن؟، ما الشيء الثمين الذي جعل هذا الجيب قِبلة المستثمرين ؟!
فإن أغنى شخص هنا هو من يملك في جيبه مبلغاً من المال بالكاد يكفيه إلى نهاية الشهر، وهذا هو الوحيد الذي يجلس متربعاً ينتظر في خيلاء "الشاي العدني" أن يأتي به متزلف ليطلب سُلفة.
من الأشياء الموجودة في جيب المواطن، مجموعة بسيطة من الفواتير والسندات الخاصة بالكهرباء والماء والإتصالات والعلاج والتعليم ومخالفات المرور وسندات الإيجار، وأيضاً في جيبه بضع بطاقات حكومية وبنكية أهمها بطاقة الصراف التي لا يستخدمها إلا لمرة واحدة يسحب بها كامل الراتب ظناً منه أنه هكذا يساهم في خسارة البنوك!، بالنسبة لكبار السن "المتقاعدين" فينتشر بينهم حمل الكثير من الخردة في جيوبهم كالعِلك والحلوى للأحفاد ومشط ومجموعة مفاتيح وكتيب أدعية وحبوب الضعط والسكر وبكت دخان ومسواك، وصورة شخصية لهم حين كانوا على رأس العمل.

في جيب المواطن أيضاً الكثير من الأحلام المؤجلة والوعود الزائفة والأماني المتراكمة، كحلم إمتلاك سكن أو شراء خروف بثمن معقول، وفي جيبه كذلك بضع وساوس شيطانية قد يئس الشيطان أن يحققها له المواطن لمحدودية الدخل ولله الحمد.
في الأخير لو أخرجنا كل ما في جيب المواطن ووضعناه على الطاولة فأبداً لن نجد هذا الكنز الذي يبحث عن الجميع، لا زمرد وياقوت ومرجان، لا شيء قيم ثمين يستدعي نقل أدوات التنقيب عن الزيت إلى الجيب بهدف تحقيق الموازنة.

--

لا أعرف بالضبط متى بدأ الطواف حول جيب المواطن يتحول لما يشبه العقيدة، فلم أعهد للبنوك من إستراتيجية تحقق لها أعلى عائد ربحي إلا إستراتيجية الطواف حول جيب المواطن، وقد شاركها هذا الطواف مجموعة من المؤسسات والشركات الخدمية كالكهرباء والماء والإتصالات والبلديات والجوازات ووكلاء السيارات والمستشفيات .. إلخ.
كأن المواطن يحمل كعبتهم في جيبه!، أو كأن صورته الشخصية شُبِهت لهم تمثالاً كان يطاف حوله! .. مهما تكن الدوافع فقد تعرض هذا الجيب لكل عوامل التعرية بسبب الطواف، واليوم يُعاد الطواف حول هذا الجيب بحثاً بين البقايا عن أي شيء قد يضيف أو يوازن أو يحقق فائض مالي يملى العين.

ومن باب الأمانة، فإن أغلب الجالسين على هذا الرصيف لا يمانعون من المساهمة بالمال والنفس لأجل هذا الوطن، الكل يدرك أن مساهمته واجبٌ عليه، لكنهم يتساءلون عن الحقوق، عن أبسط الحقوق المتمثلة في طرح الأسئلة، أسئلة على شاكلة:
لماذا القرار الذي يمس جيب المواطن يبدأ وينتهي مدروساً مفصلاً ويتم تطبيقه فعلياً في ليلة، بينما القرارات التي تمس جيوب المترفين وهوامير العقار والماشية والمصارف ومحتكري السيارات تأخذ سنوات للنظر فيها وسنوات أخرى للتقرير الذي ينتهي أحياناً بـ"ننصح بالتريث" وأكثر الأحيان لا ينتهي!.
لماذا لا يتم ربط الحزام أولاً على بطون الكبار؟.
ثم هل سيؤخذ من جيب المواطن بهدف بناء مصانع وشركات عملاقة تسهم في تنويع مصادر الدخل وتؤمن حياة كريمة للأبناء؟.
هل فعلاً سنصنع ما نلبس ونزرع ما نأكل ؟.
لماذا لا يتم إجبار وكالات السيارات أن تبني بأرباحها الخيالية مصانع للتجميع، وهذا أضعف الإيمان؟.
لماذا لا يتم كف أذى البنوك وشركات الاتصالات التي ما كان لها أن تتربع على ميزانيات تفوق ميزانيات دول لولا جيب المواطن الذي لا تزال تستغفله!

إن الدعوة إلى الترشيد والتقشف هي شراً لابد منه، فسياساتنا الإقتصادية رغم الميزانيات الضخمة ولأسباب عدة قد انتهى بها الأمر إلى ريعية هشة، وسيصل اليوم الذي تصبح فيه ميزانية الرواتب أعلى من مردودات النفط.
فما الحل؟!
الحل:
أن يلتفت الجميع إلى ضرورة أخذ مسألة محاربة الفساد على محمل الجد.
أن يتم البدء في إيجاد مصادر متنوعة للدخل دون تسويف ولجان وعمليات مط.
أن يباشر الجميع في ربط الحزام، بدءً من الأمير ثم الغفير .. فإن ما نمر به اليوم ليس إلا بداية الطريق نحو 2030 وهو طريقاً وعر وصعب، يحتاج إلى مكاشفة ومصارحة وتوضيح كي نصل سالمين.