جزى الله الشدائد كل خير





الحاضر .. محطة نرتاح فيها قليلاً من رحلة الأمس ثم نتجهز لرحلة الغد.


السعودية تشهد اليوم وتعايش تحولات كبرى، تحولات ستؤثر عليها من كل النواحي "سياسياً وإقتصادياً وثقافياً" .. تحولات ستغير ملامح هذه الدولة للأبد، ولن يعود الوضع برداً وسلاماً إلا لو عاد الزمن إلى تلك اللحظة التي تم فيها الإعلان عن "عاصفة الحزم" وتم منعها من الحدوث، وطالما الزمن لن يعود فعلينا أن تتأقلم مع حقيقة أن رغبتنا في النهوض وفرض الذات طبيعي أن تزعج الأخرين كثيراً، أن تؤثر على مصالحهم جداً، فالآخرين قاموا بتكييف مصالحهم مع وضعنا في السابق، حين كان دورنا ينحصر في المداراة والملاطفة ودفع الأموال بلا مقابل ولا إملاءات، حين كان دورنا ينحصر في التغني بصداقات لا محل لها من الإعراب.

وفي ظل هذه التحولات التي نعيشها اليوم، علينا أن نتعلم جيداً كيف نتجنب الوقوع في نفس الأخطاء التي وقعنا فيها بالأمس، كيف نتفادى السقوط في الحفر التي سقطنا فيها مراراً بحسن نية وسوء تقدير.

لقد كانت سياستنا مبنية على الظن، الظن بأن من حولنا هم فعلاً أصدقاءً ودودون يكنون لنا كامل الإحترام والتقدير، لنكتشف أن العلاقات الدولية اليوم لا تعترف إلا بالمصلحة والنفعية المجردة، المقربون من العرب لا يؤمنون إلا بمصالحهم، لا عقيدة يملكونها إلا عقيدة النفعية البشعة، من يبتسم لنا فلأن الإبتسامة تحقق له مصلحة فإن رأى في العداوة والبغضاء مصلحة ستتحقق له فسيكشر عن أنيابه دون أي إعتبار لإنكسار الآمال التي عقدناها على أخوته وصداقته.

لقد استيقظنا اليوم لنجد أغلب المحيطين بنا، أغلب الحلفاء الذين تغنينا بقربهم، ليسوا أكثر من أصحاب مصالح، وكي لا يستيقظ الأبناء غداً ويفاجئهم هذا الأمر مجدداً فعلينا أن لا نهدر المزيد من الوقت والجهد والمال في عقد التحالفات شرقاً وغرباً، فالتحالفات مشاريع ثانوية تأتي بعد التحالف معنا، بعد أن نؤمن بسواعدنا، بعد أن يكون لنا مشروعنا الخاص والقائم أولاً وأخيراً على الإيمان بإبن هذا البلد دون سواه، بعد أن يتم إصلاح الداخل بشكل جاد دون تسويف، ففي الأخير لن يراعي مصالحنا سوانا.

علينا أن نصلح أوضاعنا الاقتصادية والسياسية والثقافية كي نستطيع تحمل تكلفة مشروع بهذه الضخامة.

علينا أن نبدأ في التعامل مع الكل بمبدأ أنه عدواً حتى يقوم هو بإثبات صداقته، وليس صديقاً نتوهم مودته ثم تفاجئنا عداوته!، فقد كلفنا هذا المبدأ خسارة كل الرهانات حتى الآن، وضعنا الرهان على "جعجع والحريري" في لبنان، وعلى "الليبرالية" في مصر، وعلى "القبائل" في اليمن، لنكتشف في الأخير أننا كنا نراهن على أشباح لا تأثير لهم في أرض الواقع إلا في إحداث الشوشرة.

لقد سارع الكل مع بداية "عاصفة الحزم" إلى تقديم الأعذار والحجج للتهرب من المشاركة، ولسان حالهم "نفسي نفسي" .. وتم على إثر هذا التخاذل دفع الكثير من الأموال، وعقدت الكثير من الإجتماعات، وألقي بالكثير جداً من الرز في بئراً بلا قاع، أردنا أن نريهم كيف أن القضية ليست قضيتنا وحدنا إنما قضيتهم في المقام الأول، لكن البحث المرضي عن تحقيق مصالحهم الشخصية أفقدهم القدرة على رؤية الحقيقة الواضحة وضوح الشمس، حقيقة أن مشروع إيران لا يتوقف عند حدودنا إنما يمتد إلى وجود العرب، فالمجوس قومٌ تسيرهم أحقادهم والأطماع، كالعُمي يرفعون شعارات أخذ الثأر من الجميع بلا إستثناء.

إن المعركة ليست بين مشروع إيراني وأخر سعودي هدفه الهيمنة والسطوة، إن المعركة بين عرباً وفرس، بين مسلمين ومجوس، معركة تحشد فيها إيران الرأي العالمي لصالحها، تجمع كل المرتزقة، تستغل التشيع والشيعة وتركبهم كي تصل لأهدافها، إن المعركة اليوم معركة وجود، لكن الأصدقاء من حولنا يُعيدون ما فعلوه كل مرة خلال التاريخ، يفضلون تحقيق مصالحهم الشخصية الضيقة على مصلحة الأمة، يؤثرون الحفاظ على مكتسباتهم الدنيوية الهشة وإن أضاعوا في المقابل كرامتهم وقيمتهم.

وهذا أهم الأسباب التي تجعلنا كلما بذرنا البذور وزرعنا الزرع، جاءت إيران لتحصد كل الثمار !!


--


إن النهوض مطلوب، وتغيير المسار أمراً حتمياً ولابد منه، وقد قدر الله لهذه البلاد أن تبادر هي للنهوض وتغيير المسار ونزع ملامح السكينة والوقار التي تحلت بها زمناً، لكن هذا التغيير ومحاولة النهوض له متطلبات كما وله تبعات، فإنه مشروع ولا يزال في بداياته، وقد شهدنا في البدايات تبعات كبرى بدءً من مؤتمر الشيشان مروراً بقانون جاستا وإنتهاءً بتساقط أقنعة الأصدقاء القريبون قبل البعيدون، ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالغد حالفل بالمزيد من المفاجآت ومحاولات الصفع، وسيتساقط الأصدقاء أكثر وأكثر ..

إنها تبعات يبتلي بها الله عباده ليختبر صدقهم فيما يعزمون القيام به.

أما عن متطلبات هذا المشروع، فأن يتم إصلاح الداخل بلا تسويف، فالداخل هو الدعامة الرئيسية والوحيدة لإستمرار مشروع بهذا الحجم، بلا إصلاح داخلي حقيقي لن نصل لأي مكان.

ثانياً أن تكون كل الجهات في الدولة على قدر المسئولية، وتحديداً الجهات السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية، وإنني أطمئن إلى الدور الذي تؤديه وزارة الدفاع في الحد الجنوبي والحد الشمالي، أطمئن إلى الدور الذي تؤديه وزارة الداخلية في الحفاظ على تماسك الداخل متيناً آمناً مطمئناً، أطمئن إلى الجهاد الذي تخوضه وزارة الخارجية وهي تخوض حربها الضروس لدعم المشروع السعودي.

لكن ورغم كون تسعة أعشار اللعبة الدولية السياسية اليوم هي لعبة إعلام، إلا أنني أبداً لا أطمئن لدور الإعلام السعودي، فإعلامنا بلا شك هو الأقوى عربياً والأكثر إحترافية وجذباً للجمهور، وقد مارس الإعلام ببراعة كل الأدوار إلا الدور الوحيد المناط به، أن يكون صوتنا إلى العالم !!.

إن مشكلة إعلامنا ليست في أنه يخدم أهداف الأخرين، مشكلته أنه إعلام بلا هدف ولا قضية، وما لا هدف له فمن السهل على الأخرين إمتطائه ليحققوا أهدافهم، هذه هي كل مشكلة إعلامنا، أن قضيته الوحيدة أن يستمر في عرض البرامج الترفيهية !.

إن السعودية دولة عظيمة، ولها أدواراً إنسانية عظيمة، وإعلامنا لا يجد بين كل الأدوار التي تقوم بها السعودية ما يمكن إستغلاله ليبين للعالم مدى عظمة هذه الدولة !.

الإعلام في أوروربا مثلاً يستغل قضية اللاجئين خير إستغلال ليبين دول أوروبا أنها نصير الإنسانية وحامية المستضعفين، حتى لو آوت دولة في أوروبا مئة لاجئ في أراضيها لضخم إعلام هذه الدولة صورة اللاجئين ألاف المرات، والسعودية لم تغلق أبوابها يوماً في وجه المستضعفين، من فلسطين وتركستان وأفغانستان وبورما والعراق وسوريا .. إلخ، وهؤلاء لا يعاملون معاملة اللاجئين إنما ينظر لهم أنهم اخوة وأهل وأصدقاء لهم كامل الإحترام والتقدير، تفتح لهم الدولة أبواب المستشفيات والمدارس وأسواق العمل بلا تمييز، وهذا دوراً واحداً ضمن عشرات الأدوار الإنسانية التي تقوم بها السعودية منذ توحيدها، وليس المجال هنا لحصر كل أدوار السعودية في المجالات الإنسانية، لكن يكفي معرفة أن السعودية خلال بضع سنين صرفت في الجانب الإنساني أكثر من مئة مليار دولار، رغم هذا لا يجد إعلامنا ما يستغله لبين حقيقة هذه الدولة !.

للأسف، إعلامنا الرسمي يغط في سباتٍ عميق، وإعلامنا المدعوم يبلع "المن والسلوى" بلعاً ثم يصور للعالم أن السعودية ليست إلا صحراء لا ينبت فيها إلا الشوك !!.
فأين إعلامنا عن المشروع الذي تخوضه السعودية اليوم ؟!، ما دوره في كل هذه القضية، بالضبط ؟!.


--


لكن .. إن كان للشدائد جانبها المظلم فإن لها جانبها المشرق، فهي تبين لنا العدو من الصديق، وهي أيضاً تزيد الوعي في الفرد والجماعة، في السياسي ورجل الشارع، الشدائد تحفز على تغيير العقائد السياسية كسياسة بناء العلاقات والتحالفات التي كانت خسائرنا منها أكبر من العوائد بأضعاف مضاعفة، الشدائد أيضاً تحرض على غربلة شاملة لكل المناهج الإجتماعية، وأهم المناهج التي تحتاج إلى غربلة اليوم هو المنهج الإعلامي، فبفضل إعلامنا تاهت حقيقتنا عن أعيننا قبل أعين الأخرين.


--


لقد مرت السعودية منذ تأسيسها بالكثير من المنعطفات والمحن والشدائد، وقد تجاوزتها بفضلاً من الله، وبإذن الله ستتخطى هذه الدولة محن اليوم وشدائدها إلا أن الأمر لن يكون بالتساهيل كما لم يكن يوماً بالبركة والتساهيل، إنما بالحسم والحزم والحنكة، وبمعرفة جوهر كل قضية، وقضية اليوم أن الأخرين "عرباً وعجماً" يسعون جاهدين إلى تقزيم السعودية أو إعادتها إلى ما قبل "عاصفة الحزم" .. أن يكون كل دورها في الطبطبة والإبتسام والملاطفة ودفع الأموال بلا مقابل .. أن لا تقود العرب لأي مكان سوى الخنوع والخضوع.

فجزى الله الشدائد كل خير، قد أسقطت الأقنعة المزيفة، وكشفت لنا العدو من الصديق.
جزاها الله ألف خير أن أهدتنا فرصة لا تتكرر لنراجع فيها كل حساباتنا.

الطواف حول جيب المواطن



لست خبيراً في الاقتصاد، ولم أمش يوماً في دهاليز السياسة.
لست بصاحب فضيلة ولا مثقف نخبوي.
لست خبيراً في فنون الإدارة ولم يستضفني الإعلام يوماً بصفتي محلل إستراتيجي ولا رياضي أو حتى معالج روحي، وفي الحقيقة هي أشياء كثيرة لستها.
لست إلا مواطن ضمن جموع المواطنين يجلس على هذا الرصيف بجانب جموع الجالسين تحت أعمدة الإنارة، المزاحمين لقطط الشوارع، أراقب ما يجري وأحاول بإصرار أن أفهم إلا أني دوماً أفشل، وكلما فشلت أخذت أسأل الجالسين هنا: هل فهمتم شيئاً؟، فيجيب الكل بـ"لا" إلا أحدهم هناك دائماً يجيب بـ"نعم" والمسكين لم يقل يوما "نعم" إلا وفاجأه الجميع بنظرات ذهول مباغته تجعله يتصبب عرقاً وينسى كل ما أستوعبه.

وعلى هذا الرصيف الكل يطرح سؤالاً وحيداً مفاده:
ما الذي يوجد في جيب المواطن؟، ما الشيء الثمين الذي جعل هذا الجيب قِبلة المستثمرين ؟!
فإن أغنى شخص هنا هو من يملك في جيبه مبلغاً من المال بالكاد يكفيه إلى نهاية الشهر، وهذا هو الوحيد الذي يجلس متربعاً ينتظر في خيلاء "الشاي العدني" أن يأتي به متزلف ليطلب سُلفة.
من الأشياء الموجودة في جيب المواطن، مجموعة بسيطة من الفواتير والسندات الخاصة بالكهرباء والماء والإتصالات والعلاج والتعليم ومخالفات المرور وسندات الإيجار، وأيضاً في جيبه بضع بطاقات حكومية وبنكية أهمها بطاقة الصراف التي لا يستخدمها إلا لمرة واحدة يسحب بها كامل الراتب ظناً منه أنه هكذا يساهم في خسارة البنوك!، بالنسبة لكبار السن "المتقاعدين" فينتشر بينهم حمل الكثير من الخردة في جيوبهم كالعِلك والحلوى للأحفاد ومشط ومجموعة مفاتيح وكتيب أدعية وحبوب الضعط والسكر وبكت دخان ومسواك، وصورة شخصية لهم حين كانوا على رأس العمل.

في جيب المواطن أيضاً الكثير من الأحلام المؤجلة والوعود الزائفة والأماني المتراكمة، كحلم إمتلاك سكن أو شراء خروف بثمن معقول، وفي جيبه كذلك بضع وساوس شيطانية قد يئس الشيطان أن يحققها له المواطن لمحدودية الدخل ولله الحمد.
في الأخير لو أخرجنا كل ما في جيب المواطن ووضعناه على الطاولة فأبداً لن نجد هذا الكنز الذي يبحث عن الجميع، لا زمرد وياقوت ومرجان، لا شيء قيم ثمين يستدعي نقل أدوات التنقيب عن الزيت إلى الجيب بهدف تحقيق الموازنة.

--

لا أعرف بالضبط متى بدأ الطواف حول جيب المواطن يتحول لما يشبه العقيدة، فلم أعهد للبنوك من إستراتيجية تحقق لها أعلى عائد ربحي إلا إستراتيجية الطواف حول جيب المواطن، وقد شاركها هذا الطواف مجموعة من المؤسسات والشركات الخدمية كالكهرباء والماء والإتصالات والبلديات والجوازات ووكلاء السيارات والمستشفيات .. إلخ.
كأن المواطن يحمل كعبتهم في جيبه!، أو كأن صورته الشخصية شُبِهت لهم تمثالاً كان يطاف حوله! .. مهما تكن الدوافع فقد تعرض هذا الجيب لكل عوامل التعرية بسبب الطواف، واليوم يُعاد الطواف حول هذا الجيب بحثاً بين البقايا عن أي شيء قد يضيف أو يوازن أو يحقق فائض مالي يملى العين.

ومن باب الأمانة، فإن أغلب الجالسين على هذا الرصيف لا يمانعون من المساهمة بالمال والنفس لأجل هذا الوطن، الكل يدرك أن مساهمته واجبٌ عليه، لكنهم يتساءلون عن الحقوق، عن أبسط الحقوق المتمثلة في طرح الأسئلة، أسئلة على شاكلة:
لماذا القرار الذي يمس جيب المواطن يبدأ وينتهي مدروساً مفصلاً ويتم تطبيقه فعلياً في ليلة، بينما القرارات التي تمس جيوب المترفين وهوامير العقار والماشية والمصارف ومحتكري السيارات تأخذ سنوات للنظر فيها وسنوات أخرى للتقرير الذي ينتهي أحياناً بـ"ننصح بالتريث" وأكثر الأحيان لا ينتهي!.
لماذا لا يتم ربط الحزام أولاً على بطون الكبار؟.
ثم هل سيؤخذ من جيب المواطن بهدف بناء مصانع وشركات عملاقة تسهم في تنويع مصادر الدخل وتؤمن حياة كريمة للأبناء؟.
هل فعلاً سنصنع ما نلبس ونزرع ما نأكل ؟.
لماذا لا يتم إجبار وكالات السيارات أن تبني بأرباحها الخيالية مصانع للتجميع، وهذا أضعف الإيمان؟.
لماذا لا يتم كف أذى البنوك وشركات الاتصالات التي ما كان لها أن تتربع على ميزانيات تفوق ميزانيات دول لولا جيب المواطن الذي لا تزال تستغفله!

إن الدعوة إلى الترشيد والتقشف هي شراً لابد منه، فسياساتنا الإقتصادية رغم الميزانيات الضخمة ولأسباب عدة قد انتهى بها الأمر إلى ريعية هشة، وسيصل اليوم الذي تصبح فيه ميزانية الرواتب أعلى من مردودات النفط.
فما الحل؟!
الحل:
أن يلتفت الجميع إلى ضرورة أخذ مسألة محاربة الفساد على محمل الجد.
أن يتم البدء في إيجاد مصادر متنوعة للدخل دون تسويف ولجان وعمليات مط.
أن يباشر الجميع في ربط الحزام، بدءً من الأمير ثم الغفير .. فإن ما نمر به اليوم ليس إلا بداية الطريق نحو 2030 وهو طريقاً وعر وصعب، يحتاج إلى مكاشفة ومصارحة وتوضيح كي نصل سالمين.

مسوخ بلاد الحرمين

 

نبدأ الحكاية من تلك الفكرة التبسيطية للأمور، والتي يتم عن طريقها اختصار تاريخ ألف عام مر على أوروبا بوصفه في عبارة "عصور مظلمة"، وهذا الوصف في حقيقته لا يصف أي شيء لكنه بطريقة ما وجد له الرواج في الأذهان حتى أصبح من المسلمات، ولا أريد الخوض في سمات تلك الحقبة، فلهذا الحديث أهله، إنما أردت الحديث عن عملية ربط ظلامية تلك العصور بالتسلط الكنسي.

الباحث في الأمر سيجد أن تلك الحقبة من تاريخ أوروبا لم تكن في حقيقة الأمر ظلامية كما روج لها المؤرخون، لكن حتى وإن سلمنا بأنها كانت عصورا ظلامية بالكامل فإن ربط كل تلك الظلامية بالتسلط الكنسي وحده فيه إسفاف وسذاجة، والعقلية العربية تعشق الاختصارات، لهذا يؤمن بعض مثقفينا -هداهم الله- بوجوب إلقاء كل تلك الحقبة من تاريخ أوروبا في سلة الظلامية، ثم يؤمنون بوجوب إلقاء كل تلك الظلامية في ساحة الكنيسة، ثم يؤمنون بأن الحل السحري الذي انتشل أوروبا من الظلامية إلى التنوير هو "فصل الكنيسة/ الدين عن الدولة".

إن الإيمان بهذه الفكرة وبهذه الطريقة تحديدا يشبه السير في اتجاه واحد لا يؤدي إلى أي مكان، إنه تفكير أحادي الاتجاه، كل الخطوات فيه واضحة بسيطة يؤمن بها المرء ليتوهم أنه ملم بكامل المسألة رغم أن ما يؤمن به لا يشرح أي شيء على الإطلاق! فمن ناحية لا يمكن اختصار ألف عام في عبارة واحدة، ومن ناحية أخرى لا يمكن تحميل النظام الديني المسيحي في تلك الحقبة كل المشاكل وتجاهل الأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية، فمشاكل الأمم لا تنتج بهذه الطريقة التبسيطية، والناحية الأهم في المسألة أن الأمم لا تحل كل مشاكلها بحل واحد سحري ينتشلها من الظلمات إلى النور بضغطة زر، إنما بنهضة حقيقية على كافة الأصعدة والاتجاهات وعلى فترات زمنية مستمرة، ما يعني أن من يردد أن أوروبا نهضت حين نجحت في فصل الدين عن الدولة، فهو وإن كان يحمل أعلى الشهادات إما أنه غبي أو يستغبي.

ما فات ليس إلا توضيحا مختصرا ومُخِلا جدا الغرض منه فقط أن يعي من حشر وعيه بكل هذه الترهات أنه في واقع الأمر لا يعي شيئا على الإطلاق، وأيضا ما فات ليس هو الموضوع، إنما الموضوع عن بعض مثقفي "بلاد الحرمين" الذين يتبنون هذه الفكرة الساذجة وغير الواقعية ولا عملية ويقدمونها أمامنا على أنها الحل السحري القادر على أن ينتشلنا من واقعنا الفوضوي إلى واقع مواز للواقع الغربي المزدهر، هكذا بكل بساطة كي يرتقي المجتمع فعليه أن يفصل الدين عن الدولة، كي يزدهر واقعنا ونتحول إلى أمة حضارية فعلي الدين أن يبقى في المسجد فقط.

نحن اليوم لسنا في حاجة لمثقفين، فلدينا -ولله الحمد- عدد من المثقفين يفوق أو يساوي عدد حاملي الشهادات الوهمية، فلقب "مثقف" أصبح يطلق على المثقف الحقيقي وأيضا على كل جامع وحاوٍ يتنقل هنا وهناك ويجمع بضع أفكار ومعلومات بخيرها وشرها ويطرحها بكل تناقضاتها، ربما دون أن يعي بتناقضات وتهافت ما يحمله من أفكار، إننا في حاجة إلى حكماء يشكون ويشككون بكل جرأة في كل الأفكار التنويرية والليبرالية والعلمانية التي أصبحت من المسلمات رغم تهافتها وركاكتها، في حاجة إلى جرعات وعي مكثفة تبين لنا بوضوح أن مشكلة بعض مثقفينا ليست مع المسجد ولا مع المتدين وتصرفاته إنما مشكلته مع الدين نفسه، ربما هي مشكلة تأصلت لإيمانه بأن الحل السحري البسيط والفعال للارتقاء بهذا الوطن هو في لملمة الإسلام وحشره داخل المسجد أسوة بتعامل الغرب مع المسيحية.

لكن حتى وإن تم بطريقة ما وصدقنا فعلا أن العامل الوحيد خلف ازدهار الغرب كان بسبب فصل الدين عن الدولة، فإن الكنيسة لا تشبه المسجد بحال، والمسيحية ليست هي الإسلام، الإسلام لا يمكن فصله عن أي منحى من مناحي الحياة، فهو الفكرة وتطبيقها، هو دعوة للتأمل وحث على الممارسة، هو منظومة ثقافية سياسية اقتصادية، وهو أيضا منظومة أخلاقية شعائرية، ودين بهذه الصفات لا يمكن حشره أبدا في زاوية التصوف الروحاني، وإبقاؤه هناك لا علاقة له أبدا بممارسات السياسة وتعاملات التاجر، إنه دعاء ودعوة، قيمة وعمل.


إن السر في ازدهار الغرب هو في اعتزاز الإنسان الغربي لحد التعالي بمجتمعه ولغته وطبائعه وتاريخه وكامل موروثه، لا كما يريد بعض مثقفي "بلاد الحرمين" أن يوهمونا بأن حل جميع مشاكلنا كامن في سحق شخصية الفرد وجعله مجرد تابع للغرب! هؤلاء وإن بدا أنهم أصحاء إلا أنهم مرضى بمرض ربما لم يصنفه علماء النفس حتى الآن، مرض التواجد جسديا في مكان والروح تهيم في مكان آخر دائما أجمل وأرقى، ومن علامات هذا المرض أن الإنسان يبالغ في الإعجاب بالمجتمع التخيلي "الغربي"، ويبالغ في النفور من مجتمعه، وكلما زاد إعجابه بالمجتمع البعيد المتخيل زاد كرهه للواقع الذي يعيشه، وغيرها من الأعراض التي تجعل الشخص كائنا غريبا في مجتمعه، أشبه ما يكون بالمسخ، لا هو بالغربي فيرتاح ويريح، ولا هو بالعربي فيهنأ ويستكن.. هؤلاء المسوخ تحديدا من أهم عوامل انحطاط الأمم.. والله المستعان.

فوضى النسب الشريف

 

في البدء لا بد من التأكيد على أن محبة "آل البيت" ليست فعلاً مستحبا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، إنما هي واجب حيث يثاب محبهم ويعاقب مبغضهم، لكن كما أن هنالك أخطاء تمارس في الصلاة والصيام والزكاة، فإن هنالك أخطاء تمارس عند التعامل مع "آل البيت"، هذه الأخطاء المتفاوتة أنتجت اليوم سوقا متكاملا بدكاكينه وبسطاته يتاجر فيه مرتزقة، بضاعتهم مجموعة وثائق مزورة وأشجار نسب مفبركة تباع لقاء دراهم معدودة فيشتريها زبائن مرضى بعقد نفسية متعددة ربما أقلها الشعور بالنقص وفقد الهوية.

لكن هل يقع اللوم هنا بالكامل على التاجر والزبون؟! بمعنى آخر: ما الدوافع الحقيقية وراء كل هذه المسألة؟ فأغلب ما يتم عرضه من دوافع ليست إلا عملية تمويه على المشكلة! فالمشكلة ليست في التاجر ولا الزبون إنما في ثقافتنا نحن، ثقافتنا التي ضيعت الوسطية في التعامل مع "آل البيت"، وإن نشوء سوق لتزوير النسب دليل على أننا حين ضيعنا الوسطية لم نتجه للمجافاة إنما للغلو في محبة "آل البيت"، وهذا هو بيت الداء، الغلو في محبة "آل البيت" اليوم هو المسؤول الأبرز عن تجارة النسب.

لو كان الأمر مجافاة حقاً لما نشأت الرغبة في أحدهم أن يدعي الانتساب لآل البيت، لكن بما أن الأدعياء كثر، فعلينا البحث عن الأسباب في ثقافة التعامل مع "آل البيت" التي غالباً ما يتم السكوت عنها والاكتفاء بتقريع المزوِر ومن زور له. ثقافتنا اليوم فيها تقديس مبطن أحياناً وأحياناً صريح تجاه "آل البيت"، هذا التقديس بدرجاته سهل على بعض المنتسبين لآل البيت والذين لا هم لهم إلا الدنيا أن يتحصلوا على مكتسبات اجتماعية أو معنوية وقد تصل للمادية، وإن الحصول على هذه المكتسبات لمجرد النسب سبب كاف ودافع رئيس لخروج ألف أفاكٍ دعي، إذاً المسألة ليست أن الأدعياء مرضى إنما ما هي المسببات التي جعلتهم يمرضون؟

وللأمانة فإن الوسطية تجاه "آل البيت" حاضرة عند أهل السنة وقد تنحو أحياناً إلى التقديس على خجل، لكن في الطوائف الأخرى التقديس صريح بلا خجل، فتجد من يقدم المنتسب لآل البيت لصدر المجلس، حتى وإن كان صاحب هذا النسب جاهلاً وكان في الحضور شيوخ أجلاء وعلماء، فإن كان صاحب النسب يقدم على صاحب العلم فمرحباً بالجهل والتبعية، إن كان المرء يحظى بالقداسة لأسباب وراثية سيكون قوله مقدسا وفعله مباركا وإن كانت حركاته تهريجا وأحاديثه هذيانا، وأيضا هنالك أموال تدفع فتغري الملالي أن يحولوا عمائمهم البيضاء بقدرة قادر إلى سوداء حالكة، وبمناسبة الحديث عن العمائم السوداء ألا يمكن القول إنها نوع من التمييز ما أنزل الله به من سلطان، تمييزاً قد لا يختلف عن مبادرة أحدهم للتعريف عن نفسه "أنا السيد فلان أو أنا علان الشريف"!

عموماً حتى مع الوسطية لا بد من إعادة النظر، فمجتمع اليوم ليس بمجتمع الأمس، مبادئ المواطنة دخلت على الخط، والتطور المعرفي زاد رافعاً معه الوعي الديني والفكري الحقوقي وغيرها من المفاهيم التي تتعارض مع كل أشكال التمييز، عليه فلا بد من إعادة النظر أو ضبط المسألة على أقل تقدير، فالمشهد تطغى عليه ضبابية لا يمكن تجاهلها، والأمر ما عاد مجرد تكريم وحفاوة كوضع رأس المفطح أمام الضيف من "آل البيت"، إنما تخطى إلى توفر مكتسبات معنوية ومادية عديدة، هذا بغض النظر عن التنزيه والتعظيم أحياناً، أيضاً لا يجب تجاهل حقيقة أن المظاهر اليوم بالنسبة للكثيرين هي المعيار الأهم، والكائنات القشرية لا يهمها حلال وحرام فالأهم أن يكون الواحد منهم محط الاهتمام بأي ثمن، فما المخرج من كل هذه الفوضى؟ وكيف يتم التوفيق بين تكريم "آل البيت" مع عدم إيهام الآخرين بأنهم أقل؟

قد يقول قائل إن الموضوع ليس بتلك الضخامة التي تستحق الحديث عنها، حسناً بماذا نفسر إصرار زعيمي أكبر عصابتين في الوطن العربي "حسن نصرالله" و"أبو بكر البغدادي" على حشر اسميهما في هذا النسب الشريف؟! إنهما يستغلان كل هذه الفوضى ليستمدا الشرعية والقدسية التي تجعلهما يمارسان التطرف والدموية بأريحية وعدم محاسبة من قبل الأتباع، ولو أن هؤلاء الأتباع لم يأتوا من بيئة ثقافية تغالي في محبة "آل البيت" لما لعب زعيما العصابتين بهذه الورقة من الأساس، لكنهما لعبا بها ونجحا في لعبتهما، ولو أنهما لم يجدا في هذا الادعاء مكسباً دنيوياً لا يستهان به لما عضو على شجرتهم المفبركة بالنواجذ. أليس كذلك؟! إذاً هنالك خلل وهو ليس بالخلل غير المؤثر بل إن له إفرازات تساهم في التخلف الذي نعيشه.


ختاماً، لا أقول هنا: هذا رأيي السديد، قد حسم الأمر. إنما فقط أحاول أن أفهم كيف بالإسلام الذي نبذ كل أشكال العنصرية والقبلية والتفاخر بالأنساب، أجاز للبعض أن يردد كلمة "لكن"، لكن تفاخرنا نحن وتميزنا له غطاؤه الشرعي المقدس فالزم حدودك يا فتى! قد قالها علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: لعمرك ما الإنسان إلا بدينه، فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب. قد رفع الإسلام سلمان فارسٍ، وقد وضع الشرك الشريف أَبا لهب.. والله أعلم.

وما العلم إلا من أساطير الأولين!


الخرافة والأسطورة لا تنتمي بالمجمل إلى عالم الخيال والميتافيزيقيا، فكثيراً من الخرافات والأساطير إن تتبعناها سنجدها مجموعة من القصص والحكايات التي دونت وقائع وأحداث وشخصيات وحتى كائنات حقيقية لكن بأسلوب رمزي تخيلي بغرض تخزين هذه المعرفة وحفظها من الإندثار، ما يعني أن الأسطورة والخرافة في حقيقتها هي أدوات تخزين وحفظ للمعرفة الإنسانية، وهي بهذا لا تنتمي لعالم الخيال إلا في النادر.

واليوم، بيننا في العرب من يلعب لعبة خطيرة، لعبة من شأنها أن تقوم بترحيل "النهج العلمي" بكل أدواته ومعامله ومختبراته ومعادلاته الرياضية إلى عالم الخرافات والأساطير، وربما سيخلفنا أبناء أو أحفاد يتداولون فيما بينهم من باب الدردشة أن النظريات العلمية والأدوات المعملية والمعادلات الرياضية وكل هذه المفاهيم من أساطير الأولين، فإن حدث وبات العلم في زمانهم أسطورة وخرافة فهذا يعني أن الجهل هو من له السيادة حينها، إن حدث هذا في ذلك الزمن البعيد أو ربما القريب فسنكون نحن هم أولئك الأولين محل التندر والسخرية.

هذه اللعبة هي لعبة الإستغناء عن النهج العلمي وإستبداله بالشطح الذي لا وزن له، يخرج علينا عالم بعلاجات عديدة منها ما هو للإيدز وأخر للكورونا وثالث للسرطان دون تمرير أيٌ من هذه العلب الفارغة على المعامل والمختبرات ومراكز البحوث المتخصصة، دون الحاجة إلى إخضاع علاجاته للتقييم الطبي العلمي الدقيق، دون إجراء دراسة علمية ونشرها في المجلات المتخصصة، دون الإستعانة حتى بفأر تجارب يتيم!، فقط هو علاج ويتم الترويج له إستناداً على المكانة والإسم لنكون نحن فئران تجاربه، بعضنا يستنكر وأكثرنا يقول: ربما!.

الحقيقة أن مسألة ترحيل النهج العلمي إلى المستقبل في هيئة خرافة أو أسطورة ليست ببعيدة، فهذه اللعبة التي نلعبها اليوم لم تأتي من عدم إنما هي نتيجة تراكمية كانت بدايتها حين حيّد السابقون هذا العقل وجعلوه رديفاً للزندقة والكفر وباب ظلال لا تؤمن عواقبه!، فينا اليوم من يركل النهج العلمي بقدميه لأن من أجدادنا من حمل العقل بيديه ووضعه على الرصيف، وبمبدأ التراكم سيأتي أحفادنا ليقولون: لا تدخلوا البيوت المهجورة فإنها مسكونة بالعلم!

صحيح أن مثل هذه المنجزات الخنفشارية هي حالات فردية لا ينبغي تعميمها، لكن الصحيح أيضاً أن كثيراً من الكتب والمؤلفات والحوارات التي تدار في مواقع التواصل وحتى في الإعلام لا تعترف بالعلم أبداً، كتاب مغلف بشكل فخم عن الإعجاز العلمي في القرآن يحاول إقناعنا بأن هذا القدر من العلم يكفي جداً، داعية يطل علينا ليفرد الأرض ويجعلها مسطحة ثم يأتي بالصين تحت الرياض ويجد من يصفق له!، مغرد نشط يلخص "كيمياء الكم" في تغريدتان وفي الثالثة يقول: أنا لا أعتقد!، سؤال يأتي في إحدى الكتب الدراسية: عزيزي الطالب، أشرح نظرية التطور في سطرين فقط!، فإلى متى سنمارس هذه اللعبة التي ستجعل أبناءنا غداً يرددون: وما العلم إلا من أساطير الأولين!.