شعراء الجن


ولولا أن القلب يميل، لقلنا: ما به من عيب. لكنه يميل على الدوام، ليس له من قرار، لا أرض يستقر عليها ولا جاذبية تحكمه، فيهيم تارة ويضطرب تارة، وتارات تتقاذفه نسائم الهواء، وإن القلب يميل هربا من وقائع الحياة، من كل هذا الضجر والصخب والضجيج، ومن هنا يستمد الجمال قيمته، ومن الجمال يستمد الشعر معناه، ومن المعنى يرسم الشاعر أبياته، وشاعر لا يُجيد رسم المعنى فمن حقه علينا أن نصفعه كما قال "البحتري".

وإن مما يُلفِت الأنظار، أن الهائمين في أودية الشعر كثيرا ما ينسبون بديع الشعر إلى الجن أما الركيك منه فيُلقُون به في وجه شاعرهم! إن هذا الربط بين بديع الشعر وبين عالم الجن فيه دلالة على مدى الحيرة والارتباك التي أصابتهم، حيرة جعلتهم ينسبون القصيدة إلى عالم آخر، عالم لا يُشبِه عالمنا، كأنهم يقولون بكل صراحة: لا قدرة لإنسان أن يأتي بكل هذه المعاني البديعة من تلقاء نفسه.

لكن شعراء الجن إنس، وكل القصائد بدأت وانتهت في عالم الإنس، كل ما في الأمر أننا ننسب بعض القصائد إلى الجن تماما كما نصف كل من سلته الغواني بأنه مسحور وبه مس، إن العاشق السالي مُغيب العقل والقصيدة البديعة تُغيب العقل، والجن تبرير جاهز عندما نعجز عن إيجاد تبرير منطقي عند غياب العقل، هذا كل ما في الأمر!

إن الشعر في معظمه عاطفة، وإن قراءة الشعر بمنطق وعقل ستُفقِده جماليته، وهذه ميزة الشعر وعيبه في آن، ميزة لأن عاطفيته تجعل القلوب تميل فنتلذذ بهذا الميلان، وعيبه لأن عاطفيته مجال خصب للخزعبلات والخرافات.

إننا لا نقول إن خلف بديع الشعر عقلاً ذا قدرة رهيبة على التخيل والإلمام بالحياة والوجود، وإن الشاعر استطاع توظيف كل هذا وتغليفه بإطار أدبي بديع مستندا على ما يمتلكه من ثراء لغوي، لو قلنا بهذا لفتحنا على أنفسنا بابا نبحث من خلاله عن طبيعة قدرات العقل ومَلكاته، لكننا لا نقول بكل هذا لأن عقلنة الشعر تخنقه.

هنا يتم استحضار الجن كتبرير عاطفي يفتح المجال على مصراعيه أمام الخيال - ملعب الشعراء والهائمين -، فالجِن عالم تخيلي الكائنات فيه لها قدرات خارقة تجعلها أهلاً لاستيعاب ما لا تستوعبه عقول الإنس، إننا نُحيل بديع الشعر الذي هو نِتاج عقلي إلى عالم الجن الذي هو أيضا نتاج عقلي وذلك هرباً من عقلنة الشعر، وكأننا لا نُريد للعقل أن يتدخل في عالم تحكمه القلوب، إن تدخل الجن - رغم عدم منطقيته - لا يُفقِد الشعر رونقه بينما العقل سيفعل بالشعر هذا وأكثر.

عموما، اليوم هنالك من شُعراء الخليج، من يُدرك أن لعملية ربط الشعر بعالم الجن دلالة على جودة القصيدة وثرائها بالمعاني والصور، ثراءً يجعل الجمهور يُحيِّل أمر قصيدته إلى ما فوق طاقات البشر وقدراتهم، وإن إدراك هؤلاء لهذه المعلومة جعلهم يحشرون الجن حشراً في قصائدهم، لا ليُقال إنهم ممسوسون رغم أن بعضهم كالممسوس فعلاً، لكن ليُقال: ما أبدع شعر هذا وما أروع قصائده.

القصيدة البديعة في الماضي كانت تترك حيرة في المتلقي، حيرة تجعله يُلقي بها إلى أحضان الجن هربا من عقلنتها، أما بعض شعراء اليوم فيستحضرون الجن في قصائدهم ويملؤون الأماكن الفارغة في القصيدة بكثير من الهرطقة والطلاسم المنتهية بالقافية نفسها، كل هذا لضمان التفاف أكبر عدد من الجمهور، وزيادة أعداد الجمهور من شأنها أن تُحقِق منافع جمّة.

بعض شعراء اليوم الممسوسين افتعالا، يسترزقون من الخرافات المُعششة في عقول البسطاء، يُلقي أحدهم قصيدة مُبهَمة مُلحَنة مُطعَمة بطلاسم علوية وسفلية، فيتلقفها البسطاء لينسِجون حولها الخزعبلات، والإكثار من ترديد الخزعبلات حول القصيدة كفيلاً بأخذها إلى عقول المتعلمين - الأدباء منهم والمثقفين - ومنهم إلى الإعلام المرئي منه والمقروء، وهكذا تصنع الهرطقة شاعرا مرموقا له صدر المجلس، يقول ما لا يفقه، ويصفقون على ما لا يفقهون.

ومن باب الأمانة يجب الإقرار أن بعض هؤلاء الشعراء لديهم مَلكَة الشعر حاضرة وبقوة، غير أنهم يوظفونها في غير مكانها لتحقيق منفعة ومصلحة، وربما لو أنهم وظفوها في مكانها حقا وإن أبدعوا حينها لأجلسناهم في آخر المجلس! المجتمع يُحب الطرق الملتوية "أدبيا وإعلاميا وسياسيا ودينيا"، أكثر الطرق اعوجاجا هنا أقصرها إلى المقدمة!

في الختام، يُقال من باب هضم الطعام: من يأكل لسان الذبيحة سيصبح شاعرا، وقد أكلنا ألسنة الخرفان والبعارين "مع اللغاليغ" ولم نخرج بخاطرة. ويُقال: إن الذهاب لبطون الأودية والأماكن المُوحِشة والمكوث في الغرف المظلمة سيضمن اللقاء بجني "يسفَّل بك لين تِشعِر"! وأقول: ليس لبلوغ الشعر طريق، إنه يأتي كموهبة ثم يَصقِلها الشاعر بالمعرفة وسعة الاطلاع، ما عدا هذا فتأتي به حبوب الهلوسة.

كيف تصبح "مدير كبير"؟


حديث أوجهه إلى صغار السن الغِضاض الذين لم تُآسنهُم الأيام، لا إليهم جميعاً إنما سأستثني منهم من يحلم بأن يصبح ضابطا ومن يتمنى أن يتخصص في الهندسة والمذبذبين بين الطب والطيران، لا يعنيني هؤلاء إنما يعنيني أولئك الذين يحلم الواحد منهم أن يصبح "مديرا كبيرا" بأي طريقة وثمن.

حديث لا يتم التطرق إليه في دورات "إعداد القادة" رغم عدم إلمامي بما يقال في تلك الدورات، إلا أنني سأستشف بأنها دورات تضع الطالب أمام طريق مثالي، فتهيأ له أن كل المطلوب منه حتى يصل للمناصب العُليا "عِلم، عمل، أمانة، إخلاص" والكثير من المتطلبات غير الواقعية.

"مدير كبير" عبارة أطلقتها العمالة الوافدة المُحيطة - نظامياً - بكل مسؤول، يصبون له الشاي والقهوة وينظفون له المكتب والسيارة، هؤلاء يطلقون عبارة "مدير كبير" على كل مسؤول بدءًا من رئيس قسم في إدارة "كحيانة" إلى معالي الوزير، الكل في نظرهم "مدير كبير"، فكيف يا عزيزي الشاب تصل إلى هذا المنصب الرفيع؟

في البدء، إن كنت جاداً في تحقيق حلمك، واضعاً نصب عينيك هدف الوصول لذلك المنصب بكل جدية، فاعلم - رعاك الله - أن الطريق يبدأ منذ اللحظة، أعقد العزم وأترك السهر، أخلد إلى النوم في الساعة العاشرة كحد أقصى، لا تشرب الشاي ولا أي مشروب غازي، لا تُسرِف في الأكل ولا تأكل دسِم الطعام قبل النوم، إياك ثم إياك والتدخين، حافظ على الرياضة بانتظام. قد تتساءل: ما العلاقة بين هذه النصائح والوصول إلى منصب "مدير كبير"؟.

الجواب: أنك وبنسبة 99% لن تصل إلى ذلك المنصب قبل سن الخمسين، فإن لم تحرص على صحتك منذ الآن فإنك ستضيف إلى القائمة مديراً كبيرا آخر يعاني من عسر الهضم والقولون والضغط والسكري والقلب، حينها ستصبح عِلة وعالة ضمن باقي العِلل، حينها لن تستمتع بتحقيقك لهذا الهدف، ولن يستفيد من كونك "مديرا كبيرا" لا المواطن ولا مرؤوسيك، الكل يعقد آماله عليك وأنت ترجو الكل كف أذى تأدية المهام المناطة بك.

إن اقتنعت بما سبق، فإليك الوصفة الثانية، الشهادة رغم كونها أداة مهمة تقود إلى ذلك الهدف إلا أنها ليست الأداة الرئيسة هنا، فبناء كثير من العلاقات في كل وقت هي مفتاح الوصول الرئيسي، وإنك لن تبني علاقات واسعة إلا إذا تعلمت فن الإيحاء، أن توحي لهذا وذاك أنك فلتة زمانه الضليع في كل أمر، كن أمام الجميع شيخاً وقورا، كن خطيبهم والداعية، كن شاعرهم المرهف، كن مرجعهم في التجارة والإدارة والسياسة، كن أعلمهم في الفلك والانشطار النووي، ثم تفلسف أمامهم عن الطبخ والعقار ورعي الماشية، وإن لزم الأمر كن مطرب القوم والراقصة، تعلم أن تأوي كل الشخصيات في شخصك الكريم، كن خنفشاريا حلزونيا متعدد الخلايا، تلون ثم تلوى وستصل سريعاً جداً حتى قبل أن يتساءل أقرانك: كيف ومتى أصبح هذا "مديرا كبيرا"؟

هل وصلت؟، لا لم تصل، تنقصك الآن بعض الفنون، أن تتعلم فن كسر أصابع من يعترض طريقك، وفن تدبير الأمور من تحت الطاولة، ثم أقلب الطاولة على رأس من يباغتك، تعلم فن المشي على الحبل كبهلوان وليكن حبلك هنا هو القانون، تعلم ألا تسقط وليكن تلاعبك بالقانون قانونيا تماماً، ومبروك أنت الآن "مدير كبير".

الكرسي خلفك والمهنئون أمامك، هنا لا بد لك أن توضح لهم أي المديرين أنت، وإن كنت لا تعلم فأنواع المديرين المتوفرين أمامك، أولاً: المدير الحشري المهتم بتشكيل حروف كل خطاب، ومواعيد الحضور والانصراف، وأين ذهب الموظف فلان؟، ومن أحضر الفطور لمن؟. ثانياً: المدير المتشعب، ابن هذا المدير مديراً للمالية، بينما ابن أخيه مديراً للمشتريات، أما مدير الموارد البشرية فهو ابن خالته "مرزوقة" التي أوصته بالأمس أن يُعين ابن أختها "مزنة" مديراً للتطوير والإبداع. ثالثاً: المدير الفيلسوف الذي حين يتقاعد يخلف وراءه رطل كلام، اجتماعاته غثيثة يلقي فيها نكات سخيفة، عصاميته دائماً محور الحديث، يفقه في كل شيء ثم لا ينجز من كل ما يفقه أي شيء سوى الكلام.

في الختام، هذا الموضوع ليس وصفاً للإدارات والمديرين بالعموم، فالعموم في نظري أنه يحسن صنعاً، هذا الموضوع وصف للشذوذ في القاعدة، وما يشذ عن القاعدة دائماً يلفت الأنظار كما تلفت النخلة العوجاء أنظار راعيها الذي تعب في سقيها وتشذيبها وتلقيحها لترد له الجميل بأن تُساقِط ثمرها على حوض الجيران لا اعوجاج في جذعها.

كما رعى هذا الوطن أبناءه ليرد بعضهم هذا الجميل بقرارات ارتجالية عاطفية وخطوات متخبطة متعثرة، والنتيجة فشل وتباطؤ وتلاعب بمعظم المشاريع التنموية، وانتشار المحسوبية والواسطة والولاءات والشللية والابتسامات الصفراء، معظم هذه المشاكل مردها أن هاهنا من يعتقد أنه فلتة هذا الزمان الذي عجِزن فيه الأمهات إنجاب مثيل له، مثل هذا قد يحكي لأبنائه عند كل وجبة غداء كيف أن الله قد هيأه وسخره وقدر له منذ أن كان غض الشباب يافعا لمنصب "مدير كبير"