سعودة الصحراء

إن المرأة ركيزة أساسية في أي مجتمع في العالم من أعتى الدول حتى أدناها،  فالمرأة بلغت الرشد منذ أن خلقت مع الرجل ، وأضاءت و أثمرت ثم أطفأناها اليوم .
وكثيراً من الدول اليوم سواءً المُتحضرة منها أم المُتخلفة تخلق نوعاً من أنواع القيد لتلُف به مِعصم المرأة ، فالمسألة كانت ولازالت مسألة صراع بين الرجل و المرأة ، صراع مبني على غريزة فرض السيطرة التي تتملك كلا الطرفين ، ولكن بنسب متفاوتة .
ولست معنياً هنا بصراع المرأة في التاريخ أو في العالم إنما يهمني ما أراه الأن في الحاضر وضمن حدود بلدي فقط .
لكن وقبل الحديث عن المرأة في هذا الوطن لنتحدث أولاً عن الوطن حتى نفهم دور المرأة فيه ، وقبل الحديث عن الوطن علينا أن نفهم طبيعة الحياة قبل أن يتوحد الوطن .
وحتى نفهم الصورة بشكل أوضح علينا أن نفهم الطبيعة البيئية و مدى تأثيرها في السلوك الإنساني ، فالمملكة من قبل أن تتوحد في دولة واحدة لم تكن إلا صحراء جرداء في الغالب ، هي إذاً لم تكن غابة غناء ، إنما هي شبه جزيرة عربية تتكون من عِدة مناطق لكل منطقة من تلك المناطق طبيعة مناخية و جغرافية تختلف عن الأخرى في أشياء وتتشابه في أشياء .
منطقة الباحة مثلا تمتاز بجو مُعتدل صيفاً و بارد شتاءً وتتميز كذلك بهطول الأمطار على مدار العام وأرض الباحة خصبة زراعياً .
منطقة الجوف منطقة وفيرة المياه زراعية غير أن مناخها حار جاف صيفا بارد شتاءً .
منطقة تبوك تتنوع تضاريسها الجغرافية من جبال و أدوية وسهول وسواحل وهي منطقة أثرية حيث كانت تُعتبر مصيفاً لقياصرة الروم وعاصمة لعدد من الإمبراطوريات على مدى تاريخها .
أما منطقة الحجاز فهي منطقية حضرية مدنية منذ القدم حتى من قبل الإسلام، وبعد الإسلام أصبحت من أهم المحاور لما إحتوته من أثار دينية متمثلة في الكعبة المشرفة ثم تلاها مسجد النبي عليه السلام .
وليس الحديث هنا عن طبيعة كل منطقة إنما بإختصار إن المملكة تتكون من عِدة مناطق ، وهذا يعني إختلاف طبيعة المناخ و الجغرافية من منطقة إلى منطقة ، وإختلاف البيئات حتماً سيتبعه إختلافاً في طبيعة الثقافة للأفراد .
إذاً المناخ و الطبيعة الجغرافية تُؤثر حتماً في الإنسان الفرد و في المجموعة ، تُؤثر كذلك في تعامله وفي العلاقات الإجتماعية وفي العلاقات الخارجية بل وحتى في العلاقات الزوجية و العائلية .
فالبيئة التي يعيش فيها الإنسان هي وجوده في الحاضر و تاريخه في الماضي وفيها مستقبله ، يُمكن إعتبارها المسرح الذي يؤدّي عليه ما كَلفه الله به ، ولا أتحدث هنا عن الفرد إنما عن المجموعة ككل ، فالفرد يستطيع أن يخرج من بيئته إلى بيئة مُختلفة ثم يتأقلم معها لكنه حتماً سيعود في حياته الجديدة إلى عادات و طبائع المجتمع الذي عاش فيه ، ذلك المجتمع بدوره بدورها قد بنى ثقافته بناء على طبيعة المناخ و الجغرافيا التي نشاء فيه .
لذلك تختلف طبائع أهل الحجاز كمثال عن طبائع أهل الباحة وكلاهما يختلفان عن أهل الشرقية ، يختلفون كذلك في العادات و التقاليد و اللهجات وفي طبيعة الحياة الإجتماعية .
إن تلك الإختلافات طبيعية أبداً لا تعني وجود شـِقاق أو عدم إنسجام ، كما أن تلك الإختلافات ليست وليدة اليوم إنما هي أزلية منذ القدم بأزلية البيئة نفسها .
والحديث عن كل بيئة طويل لذلك سأختصر حديثي عن البيئة الصحراوية لسببين : الأول أن الصحراء بيئة قاسية بل من أقسى البيئات التي يُمكن أن يتأقلم الإنسان معها ، الثاني أن تلك البيئة القاسية هي الصورة التي تُرادف المملكة .

---

الصحراء هي منطقة جغرافية معروفة بوفرة الرمال وقلة الأمطار بل وندرتها ، ومما يزيد من قسوتها أن عدم وجود دوافع لإستعمارها يجعل منها منطقة مُنفِـرة للإستيطان البشري بالتالي تستمر في عزلتها ولا يستطيع العيش فيها إلا أناس تأقلموا مع هذه الظروف القاسية ، أناس إعتادوا على الحرارة المُستمرة والجفاف الدائم.
لذلك جاءت القبيلة في هذه البيئة الصحراوية لكي تُوفر الغطاء الآمن الذي يحتاجه الفرد فهو بدونها لا يستطيع مواجهة أخطار الصحراء وقسوتها وحده ، خصوصاً وأن طبيعة الحياة الصحراوية تتطلب الترحال الدائم إلى مناطق المياه بالتالي ستكثر الهجمات بين كل مجموعة وأخرى وتُبنى التحالفات حفاظاً على الموارد .
ثم إن طبيعة حياة الإنسان في الصحراء على قسوتها إلا أنها طبيعة بسيطة كونها تعتمد على قوانين واضحة سهلة ، إن أمطرت السماء وجد الإنسان لنفسه الغذاء والماء ، إن جفت الأرض رحل ليبحث عن بيئة جديدة ، تلك البساطة تظهر في عدم الإهتمام بالمظهر أو إعطائه الأولوية ، كذلك تتمثل في عدم وجود تنوع فني فهو في الغالب ينحسر في الشعر والشعراء حد المبالغة أحياناً ، ومن صور تلك البساطة في البيئة الصحراوية نشاء مفهوم الإنصياع التام لرأي الشيخ أو شيخ القبيلة ، فلا توجد في الصحراء مصادر للمعلومات إلا عبر تجارب الأخرين وأكثر من مروا بالتجارب في الحياة هم كبار السن الذين حملوا موروثهم الثقافي عن الأجداد أو من خلال تنقلاتهم على مدى السنين .
على الجانب الأخر نجد أن الطبيعة القاسية الجافة للصحراء مدت الإنسان بطبائع وعادات إيجابية و أخرى سلبية فالشهامة و الكرم و إحترام الكبير و الشجاعة كل هذه طبائع إيجابيه ولدتها الحياة القاسية كنوع من التعويض عن غياب المدنية ، وفي المقابل نُلاحظ الغضب وسرعة الإنفعال والتشدد في الرأي لدى الإنسان إبن هذه البيئة .
أما في الجانب الأسري والجانب الإجتماعي ، فقد كان يمتاز بطابع ذكوري في أغلب صوره ، وذكورية المجتمع تعود أيضاً إلى قسوة الحياة الصحراوية فالرجل هنا هو الأقدر على التعامل مع كل هذه القسوة البيئية لما إتصف به من صفات جسمانية خشنة ، وهذا لا يعني تنحية المرأة أو إهمالها فقد كان لها دوراً محورياً في القبيلة أو المجتمع الصحرواي والرجل أقر لها بذلك الدور المُهم غير أنه ألزم نفسه بحمايتها في هذه المخاطر وإن لزم الأمر أن يحجبها !.
ومن هنا نشأت الفكرة تجاه المرأة في الماضي أنها هم إضافي على الرجل فهو لم ينتهي من مواجهة قسوة الحياة حتى أتته مُهمة حماية المرأة .

فما الذي حصل بعد توحيد المملكة ؟
الذي حصل أنه تم تعميم طبيعة حياة الإنسان في الصحراء على جميع مناطق المملكة ، وتم إلزام الجميع بإتباع نمط الحياة نفسه ، وأن يكون دور المرأة دائماً من وراء حجاب .
لذلك نجد عقلية " أن الرجل لديه العديد من الواجبات في الحياة أحد تلك الواجبات حماية المرأة " وأنجح أسلوب يُـوفر به الحماية لها هو عن طريق إخفائها تماماً ، فصوتها عورة و لبسها عورة وكل شيء يصدر منها يُعتبر بمثابة العورة .

شيئاً فشيئاً تدفق النفط عبر الأراضي الصحراوية ورافق هذا التدفق سيولة مادية مهولة بالتالي تطورت البلاد وعُمِرت ، وأصبحت الصحراء الجرداء بيئة مدنية ! ، بُنيت فوقها المباني وتم إستيراد المياه إلى أراضيها بقوة الصناعة ، كل شيء تقريباً تغير إلا العقلية الصحراوية فهي نفسها التي عاشت قسوة الحياة أبت إلا أن تعيش الأن رغد الحياة بنفس الطريقة !
لا أقصد هنا أن كل بلاء حدث في البلاد جائنا من الصحراء إنما أقصد أن عملية جمود الثقافة في مرحلة زمانية و بييئة محددة رغم وجود المدنية جعل من ثقافتنا ثقافة رجعية مُتخلفة ، ثقافة تنظر لكل جديد نظرة مليئة بالشك و الريبة وهذه النظرة هي أول خط دفاعي كان يستخدمه الإنسان في الصحراء ، فكل شيء يُعتبر مصدر تهديداً عليه من باب الإحتياط ، وطالما يقع عليه دور حماية المرأة فلن يمر إليها شيء حتى يتفحصه الرجل من باب الحيطة والحذر ودرءً للمفاسد .

تلك الثقافة صالحة وعملية جداً في الصحراء بين القسوة البيئية و الجفاف المائي ، بل تعتبر دليلاً على قدرة الإنسان على التكيف الجبار في أقسى الظروف البيئية ، لكنها في الحياة المدنية و الحضارية وبالاً يُدمر الحياة !
فلم تعد هنالك صحراء جرداء في المملكة بالقدر الذي يساوي العقول الجرداء فيها اليوم .
لذلك ثقافتنا اليوم هي ثقافة مليئة بنظرات الريبة ، بالمؤامرة ، وبأننا مُستهدفون .


نقطة أخرى ،،،
أن نفس العقلية القاسية التي كانت تعيش في الصحراء قد طوعت الإسلام اليوم بشكل يُلائم توجهها ، حتى أصبح الإسلام صورة طبق الأصل لثقافة الصحراء ، ومن هنا تمت عملية تعليب المرآة ثم تمت عملية إخفائها على نحو لم يُعهد في تاريخ الإسلام .
ومن غير الإنصاف أن نصف تلك الثقافة بأنها خطاء أو أنها غير صالحة ، لكن الخطاء أن يتم تطبيقها بحذافيرها في المجتمع المدني رغم تغير الظروف و تغير الزمن كذلك ، فهي "الثقافة الصحراوية " صالحة فقط لظروف الصحراء والمملكة قديما ليست كلها صحراء ، وحديثاً قد دخلت المدنية وأطلت علينا منذ زمن  .. لكننا مازلنا كما نحن لم نواكب هذا التغير ؟
لذلك كله إخترعنا الفِكر الصارم الذي لا يُساوم حتى في أتفه الأشياء ، الفكر الذي يكره الحرية و العيش في مجتمع متمدن وينظر إلى كل شيء بعين الريبة ، هو إمتداد فقط للفكر الصحراوي حيث الغريب دائماً يضمر شراً وعليه دفع الجزية وهو صاغر ، والمُخالف دائماً في حكم داعية حرب !

إن الإسلام فيه صوراً عديدة لكننا أخذنا منه صورة السيف وصيحات الجهاد لأنها الأنسب لبيئة الصحراء ، حتى طغت ثقافة الموت في سبيل الله على الحياة في سبيل الله !
عقلياتنا تُشدد على مفهوم الحاكم المُطلق و المُفتي الأوحد وصوراً أخرى هي في حقيقتها تكراراً لصورة شيخ القبيلة المـُطاع .
ثقافتنا تُؤصل لمبداء عدم التجديد فطالما القدماء نجحوا بإسلامهم في تخطي الصِعاب فلا حاجة إذاً إلى التجديد ، وذلك ليس سوى خوفاً من خوض التجربة الجديدة كما كان أهل الصحراء يخافون أن يتقبلوا التجديد لكي لا تتصعب الحياة القاسية أصلاً عليهم .
نظرتنا تبداء وتنتهي بالشك و الريبة تجاه كل وافد ، تماماً كالإنسان الذي يعيش وسط كثبان الرمال بيئته تلزمه أن يتوجس من ذلك القادم فربما يضمر سؤ تجاهه وتجاه أهله .

يقول تعالى { ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم }
ويقول سبحانه { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم }
القرآن الكريم لم يخلط بين كلمة البدو و كلمة الأعراب فالفرق بين البدو في قوله تعالى { .. وجاء بكم من البدو } وبين الأعراب ، أن البدو هم أهل القُرى وهم أكثر الخلق الذين إعتمد عليهم الإسلام في نشر الدين ، فالنبي عاش بينهم وأغلب الصحابة منهم .
{ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون } والقُرى هي الأماكن التي تتواجد بالقُرب من المُدن أو الحواظر أي على أطراف الصحراء .
أما الأعراب فهم الذين يعيشون في الصحراء أو في قلب الصحراء بمعنى أدق ، وهؤلاء يعيشون عيشه صعبة قاهرة قاسية أجبرتهم أن يكونوا غِلاظ القلوب .
يصف إبن خلدون الأعراب بأنهم البدو الرُحل الذين يترحلون من مكان لأخر كلما إستشعروا بوجود مقومات للحياة في المكان التالي ، أما البدو أهل القُرى فليسوا برُحل لأنهم يعتمدون على السُـكنى في بيوت من حجر و طين مما يعني وجود إستقرار إجتماعي لديهم ، والإستقرار دلالة على أن طبيعة الحياة هنا أخف وأرحم منها في قلب الصحراء .
كما ذكر ابن خلدون أيضاً في مقدمته الكثير من صفات الأعراب والتي أهمها التعصب لأي شيء ولكل شيء سواءً كان حقاً أم باطلاً .
وبالمناسبة .. من بال في المسجد أمام النبي -عليه السلام- ليس سوى أصل لنُـسخاً تتكرر كثيراً اليوم لقوم غلبت عليهم قسوة الحياة حتى لم يعودوا قادرين على التأقلم سوى مع تلك القسوة .


عموماً ،،،
هل المخرج إذاً أن يتم تطبيق نموذج ثقافي أخر على بقية المناطق ؟ ، نموذج أهل الباحة مثلاً أو أهل الحجاز على باقي المملكة ؟
حينها سندخل في ذات المشكلة وهي أن يتم إعتبار المجتمع كُله ذو طبيعة واحدة ، بالتالي ستُخلق فوضى كالتي نعيشها ولكن بكيفية مُختلفة .
الحل إذاً .. أن يُغني كُلاً على ليلاه ، ليس من باب التفرقة و التشتت لكن من باب الإختلافات الطبيعية ، أن يُوجد نوعاً من التنوع الثقافي داخل الوطن فلا عيب أو حرج في ذلك ، وطالما الإسلام دين سِعة فسيحتوي جميع الأطياف .

يا سادة .. لقد جاء الإسلام لتنحية الجاهلية وشدد على عدم الركون إلى جاهلية الأعراب لأنها الأشد قسوة لكن بعد 1400 عام عادت أسواء أنواع الجاهلية لتتسيد المشهد الثقافي ، فإما أن نتحرك بإتجاه التصحيح أو أن نبداء ثورة على هذه الثقافة الإستئصالية وإلا سيتم طينا في سِجِل التاريخ .
فالعالم في تطور و الأمم في تسابق نحو الأمام ونحن مازلنا نئن تحت وطأة الإنغلاق ، نبني حولنا الحواجز تلو الحواجز خوفاً من المجهول شكاً و توجزاً من كل جديد .
تطورت المملكة كأرض وبيئة ، تطورت عمرانياً و إغتنت مادياً ، وتوسع العمران حتى عمت المُدن و القـُرى ، لكن كل هذا لم يقوى على غزو قلب الصحراء ، فكيف إذاً إستطاع إنسان يعيش في أقسى الظروف البيئية يعيش بأصعب ثقافة أن يعمم مفاهيمه و ثقافته على الجميع ؟
صحيح أن الحياة في البيئة الصحراوية جميلة تُذكرنا بقدرة الإنسان على التأقلم مع أقسى الظروف لكنها جميلة في ( الصحراء ) .. مُهلِكة إن خرجت منها .

نحن يا سادة توحدنا جغرافياً وهذا شيء جميل لكن القبيح في الأمر أننا توحدنا كذلك ثقافياً ، ثم إخترنا أصعب ثقافة يمكن أن تبني وطناً و تنيناها .

أعلم أني إرتقيت مُرتقاً صعب لكنها الحقيقة كما أعتقدها وقد تكون خاطئة بالكلية .
 فالله أعلم وهو أرحم الرحمين

0 التعليقات :

إرسال تعليق