اسمعني يا وطن


قصتي إن لم تقرؤها مني يا وطن ستقرأها من على " الحيط " لأن عليه أثار جلداً مُلتصق ، ذاك جلدي قد طـُبِع عليه لأني منذ ولدت و أنا لم أكف عن الإلتصاق به ، ليس خوفاً -معاذ الله- فالأمن منتشر إنما طلباً للسلامة ، فأنت يا وطن تـُحاسب على الزلل و على النيات ، لذلك و إن همست في أذن أبني سأهمس دائمً بالصمت .

فأسمع مني يا وطن :
إن روتين يومي يبدأ بالإستيقاظ منذ الساعة السابعة صباحاً ، بعدها أتوضاء ثم ألبس ثوبي و أصلي ركعتين على عجل ثم أجرجر أبنائي إلى السيارة .
وما إن أنوي الإنطلاق إلا و أجد أمامي مئات السيارات ، كل ما فيها كئيب مـُكفهراً عابسً من شدة الزحام ، فالشوارع الرئيسية دائماً زحام ، و الشوارع الفرعية جحيم ، وبعد كل خطوة مطب و بين كل مطب و مطب حفرة و أكوام الزبائل على جانبي الطريق ، أشياءً تجعل المشوار في حد ذاته مهلكة ، لدرجة أن المواطن إن خرج من منزله فالأحوط أن يودع زوجته لأنه قد لا يعود .
وبعد عناء .. أوصل أبنائي إلى مدارسهم ثم أعود مسرعاً إلى حلبات السباق مع الزمن و فوق الإسفلت الذي إشتكى من مناظرنا الكئيبة .. كل يوم ، أنطلق مسرعاً ، أراوغ السيارات أمامي لتجنب الزحام ، و أسابق الزمن ، فإن أهم ساعة في كل حياتي دائماً هي بين السابعة و الثامنة صباحاً ، لأني إن -لا سمح الله- تأخرت عن الثامنة سيضيع جزءً من ذلك الراتب الضئيل في الأساس ، مما سيعني أن موعد نطقي بالعبارة الشهيرة " عندك سلف " ستحل أبكر في حال تم خصم ذلك الجزء للتأخر عن موعد الحضور .
المشكلة أنني و أثناء محاولاتي المستميته بأن لا يطالني الخصم و على حين غفلة تلتقطني " عين ساهر " تلك المختبئة تحت ظل لوحة كتب عليها ( دامك بخير حنا بخير ) حينها سأضطر أن أطلق عبارتي الشهيرة " عندك سلف " قبل موعدها المعتاد ولكن هذه المرة لكي أسدد القسيمة ! ، إذاً مسألة " عندك سلف " التي أصبحت متلازمة المواطن لم يعد الخيار فيها أن تـُنطق أو لا تـُنطق ، إنما أصبح همه " متى " ينطق بها بعد نصف الشهر أم قبله ، قد أصبح المواطن يهمه أن لا تـُهذر كرامته هذا الشهر قبل الموعد المعتاد .
فشكراً يا وطن .

عموماً ..
أنهي الدوام ، أعود إلى البيت ، ألتهم الغداء ، أنام ، أستيقظ ، أمارس ما يمارسه المواطن الطبيعي " أبحلق " في التلفاز حتى موعد العشاء الذي ما إن أنتهي منه حتى أعود لإنتظار موعد النوم من جديد .
هذا روتين يومي .. ممل ، لا إنجاز فيه ، و لا تغيير يعتريه .
وأنا هنا لا أعترض -حاشا لله- إنما أشكوا فقط ، أشكوا وطناً حول مواطنيه إلى بشراً مرهقون ، يدورون في حلقات مفرغة للبحث عن لقمة عيش لا تصل إلا بإرهاق كرامة ، وإن وصلت إليهم ستصل دائماً ناقصة لأنها قد مرت قبل أن تصلهم إلى ألف ناهب يقتص منها الشيء الكثير ثم يرمي إليهم باللمم ، وعلى هذا اللمم يتسابق الجميع .
فشكراً يا وطن .

أحياناً تتكرر معي أموراً بشكل روتيني مع إختلاف بسيط ، مثلاً :
- كل شهر تأتي فواتير الهاتف و الكهرباء أعلى من الشهر السابق ، فإن دفعت فأنا أدفع من قوت يومي ، وإن إمتنعت سأعيش بلا ضوء و لا تواصل ، لا وجود لخيارٍ ثالث إما الموت أو الموت .
- كل ستة أشهر يحل موعد دفع الإيجار ، الذي ومن أجل توفيره قد إستغنيت عن الكثير من أحلامي ، و ما بقي منها آجلته إلى حين .
- وعلى فترات متقطعة تـُطالبني الأسرة ببعض الطلبات ، فيبداء الهجر ويبداء الصياح ، وللخروج من هذا المأزق ، ولتشتيت الإنتباه عن عجزي المادي أمارس ما تقرأه في الإعلام يا وطني " العنف الأسري " ، أنا لست وحشاً إنما محباً لوطنه ، لذلك أعاقب أسرتي على سؤ حالي لأني لا أريد أن أوجه عتابي لك يا وطن !
كثيرة هي الأشياء التي حولتها إلى كماليات بينما هي من الأساسيات عند باقي البشر ، كالأكل دائماً أعتبره زائداً و يجلب السمنة لذلك أقتصد إلى النشويات ، كشراء الملابس إن لم يكن من العيد للعيد فهو من باب التبذير ، و أن الترفيه قد إعتبرته معصية ، و وسائل التقنية أدرجتها ضمن البدعة ، و الزيارات العائلية إعتبرتها بابً من أبواب المشاكل ..... وهكذا قد حولت نمط حياتي إلى لا حياة فقط لكي أعيش على أرضك يا وطن .
فلا تبحث يا وطني عن علاج لكثرة المشاكل فيك ، عن العنف الأسري ، عن إنتشار قطيعة الرحم ، عن عزوف الشباب عن الزواج ، عن و عن ، لا تبحث لأنك أنت الداء ! .
فشكراً يا وطن .

-----
خارج السطر ،،،
الفقر ، الحاجة ، الهموم ، الديون ، المصاريف ، غلاء المعيشة .. كل هذه الأمور تـحصر كل متع المواطن في " الإنجاب " ، مما يضاعف مأساته و يزيد من فقره و حاجاته و همومه و ديونه و مصاريفه .
ولو أنك يا وطن وفرت له حياة كريمة لوجد في الحياة مُتعاً لا تُحصى غير متعة إنجاب جيلاً تعتبره أنت كعالة .
-----

أنا مواطن بسيط ، قد أعزني الله حين لم يـُذلني أمام مكتب وزير أو قصر أمير أو أمام تاجر ، فأنا - و لله الحمد - لم أشحذ يوماً  و لم أقف في طوابير أمام القصور بحثاً عن هـِبات .
أعزني الله وأبيت إلا إهانتي يا وطن حين جعلت كل حاجاتي لا تنقضي إلا بعد أن أترجى شرطي المرور أن يلغي القسيمة ، و أن أستجدي موظف الهاتف و الكهرباء أن يخفضا قيمة الفاتورة ، و أن أشحذ من البنوك قرضاً سأحمله إلى قبري .
كرامتي التي لم يـُهذرها أمير ، أهذرها كل صغير .
فشكراً يا وطن .

شكراً عى الأمان الوظيفي ، ففي عملي أحاول أن أتسلق السلم الوظيفي لأرتقي لكن و دائماً يـُقطع الحبل قبل أن أبداء التسلق ، لأن المعيار هنا ليس الجد و الإجتهاد إنما التزلف و النفاق و أنا لا أمتلك مثل تلك المهارات لذلك لا أصل دائماً إلى أي مكان .
قد حلمت أول يوم في الوظيفة بمنصب المدير العام ، و اليوم بعد كل هذه الأعوام في الوظيفة أحلم بأن يرضى عني المدير العام !
و كل يوم في عملي أجد نفس المكتب ، نفس الزملاء ، نفس المهام الوظيفية ، نفس الروتين ، فأنت يا وطن قد أجدت تمامً قتل الطموح بزرع الروتين ، فلا ترجوا إنجازاً يذكر إلا التذمر .
لهذا أصبحت أتغيب كثيراً ، اتأخر كثيراً ، أنام في العمل ، وإن مللت من كل هذا أتصفح الجرائد القديمة .
أنا بكل جدارة " عاطل على رأس العمل " ، و مديري الفاضل أراد يوماً أن يقتل الكآبة فأخرج ورقة و كتب فيها تقريراً مطول :
[ بعد التحية ، إلى الإدارة العليا .... أما بعد :
إنني أرأس إدارة من أهم إدارات المؤسسة ، ونظراً لأهمية هذه الإدارة أحببت أن أنوه إلى سعادتكم بأن فريق العمل بات فاقداً لروح الإبداع ، حتى أن الجو هنا أصبح كئيباً و المكان إتشح بالملل .
لذلك أحببت أن أنوه إلى أهمية خلق جواً مناسباً لتطوير أساليب العمل مستقبلاً ، و كبادرة مني فأوصي بخصم جزء من راتب هذا الشهر لكل موظف في الإدارة ، لما لهذا الأمر من أهمية تـُحفز الجميع على الإبتكار في العمل خلال الشهر القادم !! ]
وبعد يومين ، إجتمع بنا ليعرض ما إستجد في طلبه الذي تفضل برفعه للإدارة العليا ، كان الإجتماع صامتاً فلم يلمه من الموظفين أحد ، لأن الجميع يعلم أن المدير لا يستقصدنا إنما حتى هو يشعر بالملل ، و أن قراره السامي ليس إلا محاولة لإنعاش جو العمل .
ثم ختم الإجتماع بقوله : اعذروني فإن الأمر ليس بيدي إنما و كل ما في الأمر أننا جميعاً نعيش في وطن يقتل الإبداع .
فشكراً يا وطن .

شكراً أنك تفضلت على الأمراء بالسمو ، و الوزراء بالسعادة ، و الشيوخ بالفضيلة ، و للمواطن بأن يركع لكل هؤلاء
هؤلاء الذين أعطيتهم السيادة في الشعر و الأدب و في الرياضة ، وأسرار التجارة ، و الإستثمار و الإقتصاد.
هؤلاء المنعمين في الصِغر ، المـُكرمين في الشباب ، المـُطاعين في الكـِبر ، المُهابين في المجالس ، المقدمين في العطايا ، الكرماء في العطاء ، الحكماء في الإمتناع .
أعطيتهم نحن و أعطيتنا الرماد .
الواحد فيهم إن تمنى ، تدنوا له الثمار .. و إن إشتهى تأتيه المناصب .
ما نعتبره نحن من الأحلام المستحيلات ، يجدها أحدهم بين يديه دون أن يطلب ، كإمتلاك السكن و السفر و التعليم في أرقى المؤسسات
حتى " عين ساهر " تغض الطرف عنهم دائماً لأنها لا تلمح إلا المستضعفين ، و البنوك لا يدخلوها إلا ككبار المودعين .
الواحد فيهم لا تـُذبح أحلامه تحت سياط الديون ، و لا يـُشغل باله بمصاريف الحياة ، و إن طلب أبنائه لبن العصفور يشتري لهم يختاً ، وإن طلبت زوجته اللؤلؤ و الياقوت شَبّك لها أرضاً
ونحن المواطنون ، أبناء المواطنون ليس لنا من كل هذا الوطن إلا إستجداء اللمم الذي يتساقط من موائد الأغنياء .
فشكراً يا وطن .

هناك تعليق واحد :


  1. إن أردت العيش في وطنك ستفهم طبيعة هذا الوطن
    على ماهو عليه وليس حسبما يتعين أن تكون علية
    ومن المؤكد أنك ستتعلم التزلف و النفاق وتضيفها الى قاموسك


    .
    .
    ضآع الوطن وضيعنا
    أسأل الله أن يملأ قلوبنا صبرآ ورفقآ وتسليمآ.

    شكرآ لك

    ردحذف