العلاقة ما بين السحر والدين

 


أيهما خرج للوجود الإنساني أولاً، السحر أم الدين ؟! .. وهل خرج السحر من رحم الدين أم إن الدين إبن السحر؟!
في الحقيقة لا توجد هنا إجابات يقينية جازمة، إنما فرضيات، فمثلاً "هيجل" يرى أن هنالك عصراً قديماً أو عصر ما قبل التاريخ، وأن طقوس السحر والشعوذة قد سادت ذلك العصر، وأن الساحر في تلك الأزمان البعيدة كان هو سيد القوم وهو صاحب الهيبة والمكانة الاجتماعية، وهذه الفكرة صاغها "فريزر" في نظريته التي افترض من خلالها أن الإنسان البدائي حاول أن يتحكم بالطبيعة من حوله فأخترع الطقوس السحرية والشعوذة كأدوات تُمكِنه من التحكم في الطبيعة، لكن عندا اكتشف بأن هذه الأدوات السحرية لا تُجدي نفعاً إتجه شيئاً فشيئاً للدين.

في رأيي أن مثل هذه الفرضيات لا تصح، فالدين والسحر كانا شيئاً واحداً منذ الإنسان البدائي "الإنسان الصياد" حتى زمن الحضارة الفرعونية، لا يُمكِن خلال كل هذا التاريخ أن نفصل بين السحر والدين، فالطقوس الشعائرية التعبدية وقتها كانت تعتمد على ترديد الطلاسم السحرية والدوران حول النار وتقديم القرابين البشرية، هذا هو الدين المعتمد الهادف لتسخير قوى ما ورائية، بمعنى أن السحر عند الإنسان البدائي "الصياد" حتى السحر عند الفراعنة لم يكن شيئاً مخيفاً تتم ممارسته في الأماكن المظلمة كما يحدث اليوم، والدين أيضاً لم يكن لعبادة الله أو لجلب الراح والطمأنينة إنما كان الهدف منه تجنب غضب الشياطين والوحوش والأرواح الشريرة، ومثل هذا الدين لا يحتاج فيه الإنسان للدعاء والصلاة إنما للسحر والشعوذة.

***

السحر والدين مرا بثلاث مراحل أساسية ..

المرحلة الأولى: مرحلة الإنسان الصياد، الذي كان يعتمد على الصيد في حياته، وكان يسكن الكهوف أو يعيش في السهول المفتوحة، وقتها كانت الحياة قاسية موحشة صارمة، وحياة بهذه القسوة تتطلب ديناً يعتمد على السحر والشعوذة وذبح البشر كقرابين والدوران حول النار لتجنب خطر الوحوش أو غضب الشياطين.

المرحلة الثانية: مرحلة الإنسان الزراعي، أو مرحلة الزراعة، التي ظهرت فيما بعد وبدأ خلالها الإنسان يستقر ويستأنس الحيوان ويروضه، حينها لم تختفي الحاجة للسحر إنما اختفت الوحشة والحياة الصارمة فتحول السحر من عملية تُمارس في الأماكن المظلمة لعملية تُمارس علناً وأمام الجميع، تحول الدين من دين يُجنِب الإنسان خطر الوحوش والشياطين لدين يسترضي الآلهة.

المرحلة الثالثة: مرحلة الحضارات والمدن، كالحضارة الفارسية والبابلية واليونان والإغريق والحضارة الفرعونية، كل هذه الحضارات لم تنظر للسحر أنه شيئاً منفصلاً عن الدين، إنما كان هو الدين المعتمد لكن بشكل يُلائم الحياة في المدينة.
بمعنى، أن الساحر الذي كان يخاطب الوحوش والشياطين عند الإنسان الصياد، أصبح يخاطب كائنات نورانية عند الإنسان المزارع، ثم أخذ يُخاطب الآلهة حين عاش البشر في المُدن، الساحر الذي كان يمارس الطقوس السحرية ليُجنِب جماعته خطر الحيوانات البرية المتوحشة، أصبح يمارس طقوسه ليُمكِن جماعته من ترويض هذه الحيوانات، ثم وفي المدينة أخذ يُمارس طقوسه السحرية لإسترضاء الآلهة .. وفي كل الأوقات كان الساحر هو الكاهن وهو رجل الدين وهو المُقرب من بلاط القصر، أي أنه لم يكن منبوذاً كما عليه الحال اليوم.

طبعاً المراحل الأخرى "مرحلة الصناعة" ثم "مرحلة العلم" ثم "مرحلة التقنية" التي نعيشها اليوم، كل هذه المراحل لاشك أنها أثرت في علاقة السحر بالدين، لكنها أدخلت العلم كمنافس قوي هنا، لكن لأن علاقة السحر بالعلم موضوعاً آخر تجنب الحديث عن كل هذه المراحل.

***

في الحضارات الإنسانية القديمة "البابلية والفرعونية" مثلاً، كانت الآلهة فيها متعددة، أو عوائل من الآلهة، ولكل إله طقوساً سحرية محددة يُعبد بها، ولم يتحول الأمر للتوحيد "أي لعبادة إلهً واحداً خالق" إلا كمرحلة أخيرة وتحديداً في زمن الفراعنة الذي وُلِدت فيه اليهودية.

في بدايات الديانة اليهودية، وقصة موسى –عليه السلام- مع سحرة فرعون، هنا بدأ التمهيد للطلاق الفعلي بين عالمي السحر والدين، من هنا بدأ كل عالم يتخذ شكله المحدد والمختلف عن العالم الآخر، إنفصل العالمين من هذه اللحظات وأصبحت للساحر مهاماً محددة ولرجل الدين مهاماً أخرى مختلفة، ورغم أن الإثنان "الساحر ورجل الدين" يمارسان ما يُمارِسانه بطرق مختلفة إلا أن الإثنان في الأخير يلعبان في ملعب الماورائيات !

فما الذي حدث ؟! ..

الذي حدث أن رجل الدين سواءً كان شيخاً أو قسيساً أو كاهن، حل محل سحار القبيلة، الذي حدث أن الظروف الإنسانية تغيرت فكان لِزاماً على الساحر أن يخلع ثوبه ويرتدي ثوباً جديداً بأدوات جديدة تُمكِنه من الإحتفاظ بمكانته المعهودة .. من هنا يُمكننا القول أن الأضاحي ما هي إلا عملية تقليد لما كان يفعله الإنسان الصياد من تقديم القرابين البشرية، والتراتيل والأدعية ما هي إلا محاكاة لتعاويذ الساحر القديم.

إن الصراع ومحاولات الفصل بين عالمي "السحر والدين" بدأ فعلياً مع الأديان الإبراهيمية "اليهودية والمسيحية والإسلام" كل دين أراد الإستقلال بذاته والإبتعاد عن عالم السحر، وهذا الصراع لا يزال قائماً إلى اليوم بدلالته ما يمارسه رجال الدين سواءً بالصليب أو الرقية الشرعية لإستخراج الجن والشياطين وإبطال السحر، هذا الصراع الذي لا يزال قائماً يُعتبر دليلاً على أن هذين العالمين المختلفين اليوم كانا في السابق شيئاً واحداً.

***

إن فصل السحر عن الدين، ثم فصل الآلهة المتعددة عن الدين، كل هذا يعتبر نتائج عرضية للثورات الثقافية التي حدثت في التاريخ الإنساني، لم يكن الساحر هو هذا الإنسان المُخيِّف إنما حولته الثورة الثقافية التي رافقت الزراعة لمكاناً آخر، لمكاناً أرقى في الحقيقة، فقد تحول الساحر من مجرد رجل يمارس بعض الطقوس عند الإنسان البدائي لموظف رسمي ولكاهن أعلى في الحضارات القديمة، هذه المكانة كانت مرتبطة بتعدد الآلهة، لكن حين بدأت الديانات الإبراهيمية وبدأت الدعوة للتوحيد تم طرد الساحر للخبث والخبائث والأماكن المظلمة، حين ظهرت اليهودية بدأ إجبار الساحر أن يُمارس عملياته بشكل قذر نجس وطريقة تشمئز منها النفوس.

***

هذا ما كان بين السحر والدين .. السؤال هنا: ماذا عن الدين ؟!
في البداية كل هذه الأسئلة، وهذا الموضوع عموماً طويل ومعقد ويحتاج لكتب ومجلدات، إنما أحببت أن أوجز إيجازاً مُخِلاً بالمسألة، أن أبدي رأياً متواضعاً هنا، أن أستقرئ المسألة لا أكثر.

ماذا عن الدين في المستقبل ؟!
لقد دخل العلم والأداوت العلمية في الخط، كان الساحر يتنبأ بوقوع الخطر، فجاء الكاهن ليتنبأ بالغيب عن طريق النصوص الدينية، ثم جاء العالِم ليتنبأ بدوره بالمطر والزلازل ومرور النيازك .. إلخ، وهذا يعطينا دليلاً أن العِلم أيضاً ليس إلا إمتداداً للسحر القديم والدين الحديث.
لقد برز اليوم نمط التفكير العلمي، فهل سيلقى الدين ما لقيه السحر ؟! .. هل سيأتي في المستقبل من سيكتب عن رجال الدين بالضبط ما نكتبه عن السحرة ؟! .. كل شيء وارد، ووارد جداً.
ألا يشبه صراع العلم والدين اليوم ذلك الصراع الذي نشأ بين السحر والدين البدائي القديم ؟! .. فهل سينتصر العلم كما انتصر الدين سابقاً على السحر ؟! .. أسئلة لا أملك إجاباتها.

إن العلم ذاته ليس شيئاً من خارج هذا البيت الذي يتواجد فيه السحر والدين، إن الساحر القديم البدائي كان يستخدم العلم دون أن يُدرِك، كأن يستخدم نبتة لتغييب العقول، كان يستخدم أدوات العلم بطريقة غير واعية وهدفه مخاطبة الكائنات الماورائية "ملائكة أو شياطين أو أراوحاً أو آلهة" .. كان الثوب فضفاضاً عليه فجاء رجل الدين ليأخذ منه الجانب الماورائي ويختص بمخاطبة الآلهة، ثم جاء العالِم ليأخذ من العِلم وينظمه .. وقد تحدث ثورة ثقافية مستقبلية نتيجة لحدثاً ما يزيح العلم أيضاً عن الطريق ويدخل الإنسان وقتها لمرحلة ما بعد العلم.

إنه إن كان الدين هو ما بعد السحر، والعلم هو ما بعد الدين، فما بعد العلم شيئاً مختلف حتماً، لكن هل سيكون شيئاً أكثر تطوراً ؟!، فهنالك قولاً بأن العلم كلما تطور كان أقرب لوصفه بالسحر من كونه يأتينا بمعلومات وحقائق وكأنها من خارج هذا العالم الذي نفهمه، فالعبقرية كعبقرية "أينشتاين" شيئاً لا يمكن فهمه على الإطلاق إلا إن قلنا أنها نفحات ربانية، كما نُحيِّل الأشعار البديعة لعالم الجن، فهل سيكون "ما بعد العلم" علماً كالسحر، أم أم سيعود الدين البدائي القديم المعتمد على الطلاسم والشياطين ليتسيد المشهد من جديد ؟! .. كل شيء وارد والحديث في هذا الموضوع إعمالاً للعقل.


0 التعليقات :

إرسال تعليق