فلسطين بعيداً عن ساحة الدين


ستون عاماً، مارس فيها العرب كل أشكال الصراخ والعويل والبكاء، ثم غنوا ورقصوا وألقوا القصائد نثراً وشتماً وهجاء.
ستون عاماً من التخوين والتكفير والأدلة الدامغة على العمالة والخيانة، وفي كل عامٍ من هذه الستين العِجاف يُطِل علينا مناضلاً جديد، يحمل لسانه بيدٍ وبالأخرى يشحذ قيمة هذا النضال، ومن لا يلتزم بالدفع فهو العميل إبن العميل خائن القضية!، ومجاهداً صنديد يصرخ "الموت لإسرائيل" وسيفه في نحر جاره وأخيه وعشيرته التي تؤويه.
ستون عاماً من الشعارات والمزايدات والمؤتمرات الهادفة لنصرة القضية، فما القضية؟!، القضية بإختصار أن أطول الناس لساناً وأكثرهم قدرة على الشتم والتخوين وصياغة القصائد الحماسية والجهادية، هم أسرع الناس إرتماءً في أحضان كل يهود الأرض.
ستون عاماً أفرزت في جسد الأمة دمامل إسلامية وثورجية وقومجية، دقونهم طويلة، وألسنتهم أطول، يحرضون على مواصلة النضال من بارات لندن، ويصرخون "حي على الجهاد" من فنادق باريس، ومن هناك يشتمون بأقذع الألفاظ كل من يدعوا هنا للهدوء والسلام، فلا سلام في عرف هؤلاء رغم كونهم جبناء، رافضين دوماً لكل مبادرات السلام لا وفاءً وإخلاصاً للقضية إنما لأن السلام يعني موت القضية الوحيدة التي ظلوا على مدى ستين عاماً يسترزقون منها ويملئون بطونهم، وهذه هي كل القضية، أن اليهود لو قرروا الخروج غداً من فلسطين فبعد غدٍ ستُرفع الشعارات وتقام المؤتمرات وسيبدأ نضالاً معاكس، نضال رجاء وتضرع أن يعدل اليهود عن قراره كي لا تموت القضية، فستون عاماً أوجدت بطوناً لا تعرف كيف تشبع بعيداً عن القضية.
إن "صلاح الدين الأيوبي" لم يستيقظ من نومه فجأة ليقرر أن يحمل سيفه وينادي في الطرقات "حي على الجهاد" إنما بدأ أولاً بإصلاح الأوضاع الداخلية، فأصلح النظام السياسي والقضائي والإقتصادي، حارب الفساد وحاكم الأمراء والوزراء، وأهتم بالتعليم وأنشأ المدارس، وقد ظل على هذا لـ15 عام، حول خلالها "الدولة الأيوبية" لقوة عظمى إقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وبعد كل هذا هو لم يحرر القدس في حقيقة الأمر إنما القدس أتته، فهذه المدينة المباركة كما قال أحدهم، هي الجائزة التي يهبها الله للأمة حين تتحضر وتتمدن وترتقي، وينزعها نزعاً في اللحظة التي تسارع فيها الجموع لمبايعة مرتزق أميراً للجهاد، لتبدأ حفلة زعيقاً وصراخ.
إن سِيَّر القادة الذين حرروا القدس، بدءً من "عمر بن الخطاب" حتى "صلاح الدين الأيوبي" توضح بجلاء أن الجهاد في أصله مشروع حياة وإعمار لا هدماً وموت، وأنه مسألة مدنية لا دينية، وحل القضية الفلسطينية اليوم أن يتم إبعادها عن ساحة الدين لتدخل ساحة المدنية، أن ينشغل أبناء فلسطين بتنمية دولتهم وتحويلها لدولة قوية، أن يحاربوا الفساد بينهم، فإن لم يكن هذا ممكناً فالحل أن يجاوروا دولاً عربية قوية في كل النواحي، دولاً لها ثقلها على مستوى العالم ليستندوا عليها، ولا أزعم هنا أن قادة "السعودية والإمارات" غايتهم اليوم تحرير القدس، رغم أن هذه أمنية كل مسلم، لكن إنشغال هؤلاء القادة بتنمية أوطانهم وتحويل دولهم لدول قوية في كل النواحي، هذا الأمر بشكل أو بآخر سيصب في صالح قضية فلسطين.
مدينة المريخ أو المدينة الفضائية الإماراتية، نيوم السعودية، متحف اللوفر، مبادرة القراءة العربية التي اطلقتها دبي، شراكة أرامكوا وجوجل لبناء مدينة تكنولوجية في السعودية، كل هذا وأكثر هو أدوات اللعبة اليوم، هذا هو الجهاد الفعلي، الجهاد في ساحة المدنية والتنمية والعلم، لا جهاد الرشاشات والقنابل والإختباء في جبال أفغانستان، فالجهاد مشروع مدني لا ديني، مشروع إعمار لا هدم، من هنا علينا أن نعي بأن لا علاقة لـ"حزب الله" بالجهاد، ولا "جيش القدس" ولا حتى "حماس"، لا علاقة للإخوان بالجهاد، ولا لكل الثورجية والقومجية، والقدس في عقيدة ملالي طهران مقرها السماء، والنجف أشرف، أما حضرة "جناب السلطان" فالقدس وكامل فلسطين بالنسبة له مجرد أدوات لتحقيق مصلحة، هؤلاء يسعون للهدم، والجهاد بناء!.
الجهاد أن تبني الأمة ذاتها وأن تستخدم في هذا البناء كل الأدوات المتوفرة، والقدس مدينة الجميع، ليست مِلكاً لأتباع دين على حساب ديناً آخر، هي مكاناً للكل ويستوعب الكل وهذا ما لا يستوعبه المتعصبين، هي أرض السلام وهذا ما لا يريده مصاصي الدماء، هي أرضاً يملكها الأكثر تقدماً وتحضراً وقوة وأرقى ثقافةً وعلم، وهي التي تنساب دوماً من بين يدي الأكثر تخلفاً وإنحطاط، كأن الله أوجدها لتعرف كل أمة موقعها من الإعراب، بهذا فاليهود لم يحتلوا القدس إنما استحقوها حين امتلكوا أدوات إستحقاقها، وأدواتها العلم والتنمية، بالتالي فكان من الطبيعي أن تنساب من بين يدي المسلمين حين تفرغوا تماماً لجهاد السيف والصراخ حتى دمروا أوطانهم، وشوهوا أفكارهم إلا أن أصبحوا ينظرون لكل يساهم في الهدم أنه المجاهد الأمين، وينعتون كل من يبني أنه الخائن.
لقد ردد "أحمد ديدات" في مناظرته التي حملت عنوان "العرب وإسرائيل، شقاقٌ أم وفاق" مراراً وتكراراً: بالسلام، هنالك أمل، وطبعاً وقتها شنّع عليه مصاصي الدماء الأفاضل كثيراً، واليوم يعود مصاصي الدماء ليشنعوا على "محمد بن سلمان" لأنه قال: أنا متفائل، بالسلام. ولا مجال أبداً لأي عملية بناء إلا بالسلام. لا السلام المؤقت إنما السلام عن قناعة بأن القدس للجميع، وأنها هدية من يستحق في الأخير، والسلام.

0 التعليقات :

إرسال تعليق