التغيير والوهم

 

ما الذي يحدث في المجتمع السعودي ؟!.
حفلات .. مسارح .. اختلاط .. سينما .. سماح للمرأة بقيادة السيارة وحضور للملاعب ... إلخ.
تغييرات كثيرة حدثت فعلياُ وأخرى أكثر قادمة، فما هو الدافع لكل هذا ؟!.
حسناً، نستطيع أن نقول في هذا الموضوع كلاماً يجذب أكثر الناس ويستهويهم، بل وينال قائله عبارات الشكر الجزيل، كأن نقول مثلاً بأننا نعيش مؤامرة كبرى على هذه البلاد، وأن الغرب الحاقد يريد إخراج المرأة من عفتها كي يسقط المجتمع تِباعاً في وحل الانحطاط، وأننا آخر حصون الدين وعلينا أن نقف صفاً واحداً أمام هذه الهجمة الإمبريالية الشرسة .. إلخ من هذا الكلام الفارغ الذي يجذب الناس دائماً كونه كلاماً عاطفيا يضع اللوم على قوى خارجية ويبرئ ساحة المجتمع، لهذا فهو خطاب يعجب هؤلاء.
حسنا، ماذا عن الكلام الذي يغضب الناس، والذي يغضبهم بالطبع هو أن نقول لهم بأن الخلل أولاً وأخيراً، فيهم ومنهم.
والخلل الذي يعتبر أحد الدوافع وراء كل هذه التغييرات اليوم، أننا مجتمع عاش آخر أربعين عام بالكامل على الأوهام، والوهم من صفاته أنه إذا دخل في مجتمع فينتشر بسرعة، وبنفس السرعة يتحول لقناعات ومبادئ راسخة، ثم يستلم المجتمع هذه القناعات الراسخة ليبني عليها نظام اجتماعي متكامل، وهذا بالضبط ما حصل، أننا لأربعين عاماً قد سمحنا للأوهام بأن تسيطر علينا وتؤثر فينا، وأننا فعلاً حولنا أوهامنا لقناعات ومبادئ حرمّنا حتى التشكيك فيها، ثم إننا فعلاً بنينا نظام اجتماعي متكامل على هذه الأوهام، غيرنا في سياسات التعليم مثلاً وفي أساليب التربية وشكل الثقافة حتى في طبيعة تواجدنا في الأماكن العامة.

من أبرز الأوهام التي سيطرت علينا، توهُمنا بأن جهاز «هيئة الأمر بالمعروف» هو صمام الأمان الوحيد للمجتمع، وهذا الوهم بدوره تفرعت عنه أوهاماً لا حصر لها، أبرزها أن زوال هذا الجهاز يعني بالضرورة دخول المجتمع في نفق شهواني لا يأمن فيه الزوج على زوجته ولا الأخ على أخته.
من الأوهام أيضاً أننا توهمنا بأن الواجب الشرعي على المرأة يُحتِّم عليها أن تقِر في بيتها أسوةً بالصحابيات، رغم أن الصحابيات –رضوان الله عليهن- لم يقِرن في بيوتهن طيلة الوقت، إنما خرجن للتجارة وشاركن في الغزوات، وكانت لهن آراء ومواقف قوية في الشأن السياسي والاجتماعي، ما يعني أننا بنينا توهمنا عن المرأة السعودية بناءً على توهمنا بأن الصحابيات كلهن نسخة عن (مريم بنت عمران) -عليها السلام-، أي أنهن –الصحابيات- اعتزلن الحياة الاجتماعية وجلسن في بيوتهن طيلة الوقت، ونتيجة لهذا الوهم المركَّب تحولت المرأة السعودية من كائن حي لجوهرة وذرة وحلاوة مغلفة، المهم أنها ليست إنساناً سويا.
من الأوهام أيضاً، وهو وهم معاكس لتوهمنا عن المرأة، ففي الوقت الذي تخيلنا فيه المرأة جوهرة مصونة، توهمنا بأن الشاب في حقيقته ليس إلا كائن شهواني بالفطرة، أنه ذئب بشري يهيج إذا صادف فتاةً تمر من أمامه، والغريب في هذا الوهم أن المقتنعين به يرفضون معظم الحلول المقدمة للحد من التحرش، لأنهم أيضاً يتوهمون بأن قانون مثل قانون منع التحرش يخالف الشريعة الإسلامية، وهكذا رغم التوهم بأن المجتمع يتكون من جواهر وحملان توهموا بأن الحلول المنطقية لمنع أذى الذئب عن الحمل الوديع يعتبر رذيلة !!.
هكذا يتشعب الوهم في كل اتجاه بنفس السرعة التي ينتشر بها داخل المجتمع.

هذه بعض أوهامنا التي حولناها لقناعات راسخة فعلاً، بل وغيرنا بها النظام الاجتماعي بالكامل، ومجتمع عاش على هذا المنوال سنين عديدة، فمن الطبيعي أن يخضع في الأخير لتغييرات صادمة ومفاجئة، وفي الحقيقة أحد الأهداف من كل هذه التغييرات أن تكون صادمة ومفاجئة للمجتمع، لأننا أوصلنا أنفسنا لمرحلة كان لا بد فيها وأن نخضع لعلاج بالصدمات، والعلاج بالصدمات فعّال في حال فقد المريض قدرته على التمييز بين الوهم والحقيقة.

وللتدليل على أننا في مرحلة العلاج بالصدمات، يكفي أن نتأمل في طريقة تعاملنا مع كل قرار وتغيير، لنكتشف بأننا نسير دوماً في نمط واحد لا يتغير، فنحن في البداية نصدم حين نسمع بتغيير قادم، ونصدم أثناء التغيير، ثم نصدم بعد التغيير .. كمثال، حين علمنا بأن هيئة الأمر بالمعروف سيتم ترشيد عملها شعرنا بالصدمة، هذه الصدمة جعلتنا نعيد إحياء أوهام السنين، وافترضنا الأسوأ، بمعنى لو حدث هذا الأمر فحتماً ستحدث كوارث، كأن ينتشر الفجور في كل مكان، ويخرج التحرش عن السيطرة، وبعد أن تم ترشيد عمل الهيئة فعلاً، حينها شعرنا بالصدمة الأخيرة، كيف أن كل ما أقسمنا على حدوثه لم يحدث أي شيئاً منه، والصدمة هذه المرة سببها اكتشافنا بأن ما آمنا به كمسلمات هو في حقيقته مجرد أوهام وخزعبلات، وعلى هذا النمط مضينا مع كل تغيير.
دائماً نصدم فور سماعنا بحدوث تغيير قادم، ودائماً الصدمة تجعلنا نفترض الأسوأ، وفي الأخير نصدم حين تتهاوى قناعاتنا الراسخة رسوخ الجبال، وفي رأيي أن أحد الفوائد من كل هذه التغييرات أن يستيقظ الجميع، أن يكتشفوا بأن ما يرونه حقيقة ماثلة أمامهم قد لا يعدو كونه سراب، حينها سيعود المجتمع للحالة الطبيعية، وهذا لا يعني أننا سنصبح مجتمعا مثاليا إنما سنكون مجتمعا خاليا من الأوهام، أو مجتمعا نسبة الأوهام فيه طبيعية.


ختاماً، إن الهدف كان ولا يزال من زرع الأوهام في المجتمع هو أن يظل الجميع في حالة خوف وقلق دائم، خوف وقلق من كل شيء وعلى كل شيء، وأن يفقد الناس ثقتهم في كل شيء، في أنفسهم وفي وطنهم ودينهم، والمجتمع الخائف يعتبر فريسة سهلة للضباع، المجتمع الذي يفقد أفراده ثقتهم في كل شيء هو مجال ممتاز ليستثمر فيه المرضى، وما أكثر المرضى الذين استثمروا فعلاً في مجتمعنا لسنين طويلة، وفعلاً حققوا الأرباح، هؤلاء المتربحون من الوهم هم من يتزعم اليوم لعن أي تغيير.

0 التعليقات :

إرسال تعليق